عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    إجتماع بسفارة السودان بالمغرب لدعم المنتخب الوطني في بطولة الأمم الإفريقية    رئيس مجلس السيادة القائد العام والرئيس التركي يجريان مباحثات مشتركة بشأن دعم وتعزيز علاقات التعاون المشترك    شاهد بالصورة.. الطالب "ساتي" يعتذر ويُقبل رأس معلمه ويكسب تعاطف الآلاف    شاهد بالفيديو.. الفنانة ميادة قمر الدين تعبر عن إعجابها بعريس رقص في حفل أحيته على طريقة "العرضة": (العريس الفرفوش سمح.. العرضة سمحة وعواليق نخليها والرجفة نخليها)    شاهد بالفيديو.. أسرة الطالب الذي رقص أمام معلمه تقدم إعتذار رسمي للشعب السوداني: (مراهق ولم نقصر في واجبنا تجاهه وما قام به ساتي غير مرضي)    بالصورة.. مدير أعمال الفنانة إيمان الشريف يرد على أخبار خلافه مع المطربة وإنفصاله عنها    بعثه الأهلي شندي تغادر إلى مدينة دنقلا    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    شول لام دينق يكتب: كيف تستخدم السعودية شبكة حلفائها لإعادة رسم موازين القوة من الخليج إلى شمال أفريقيا؟    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الْعَودةُ إلى سنَّار... الشّعرُ قِنَاعًا للْهُويَّة (1)
نشر في الصحافة يوم 23 - 12 - 2011

إلى أيّ مدًى يمكن للشعر أن يكَوِّن معرفة جمالية بهُويّة ما ، دون أن يقع في تلك المقاربة المشكّكة بقدرته على إنتاج المعرفة ، لامجرد التعبير عنها فحسب ؟ ففضلا عن إشكالات الفكر وذهنيته المتصلة بإعاقة انسيابية الشعر ولطافته ؛ تبدو المعرفة في وجه آخر طاقة لا يطيقها الشعر ؛ لاسيما تلك المعرفة التي تنحو إلى التعبير عن مفاهيم ميتافيزيقية .
إزاء التباس كهذا في الكتابة الشعرية كانت هناك اختراقات نادرة لشعراء مشرقين ، ملكوا القدرة على صياغة تعبير شعري قارب إدراكا ما للمعرفة في بنية شعرية شفافة وعميقة في ذات الوقت .
ربما كان الشاعر السوداني الراحل محمد عبد الحي (1944 1989) أحد الشعراء الذين صاغوا معرفة جمالية للهوية من خلال مجموعته الشعرية (العودة إلى سنار) ، فهذه المجموعة التي تتكون من خمس أناشيد طويلة (البحر ، المدينة ، الليل ، الحلم ، الصبح) كانت ولا تزال أهم كتابة شعرية سودانية ؛ حاولت الكشف عن الهُويّة بحسبانها معرفة مخبوءة في التاريخ ، وقابلة للتجلي في الشعر .
لقد كانت هذه التجربة الطويلة للشاعر محمد عبد الحي مع قصيدة (العودة إلى سنار) عملا مرهقًا وشاقًّا ؛ حتى وصفه الشاعر ذات مرة ب(اللّعنة) إذ ظل يكتب هذه القصيدة شطرًا طويلا من حياته .
ومنذ أن بدأ بكتابتها وهو في السابعة عشر من عمره ؛ كان عبد الحي يختبر التجليات الأصفى للشعر في مقاربة الهوية . ولأن ذلك يفضي إلى صيرورة لا متناهية من عمليات الخلق الشعري ؛ فقد كانت (العودة إلى سنار) إلى حين صدورها في الطبعة الثالثة في العام 2010 التي نحن بصدد الحديث عنها ، أي بعد رحيل الشاعر بأكثر من واحدٍ وعشرين عامًا ؛ تبدو كما لو أنها التحرير ما قبل الأخير .
في هذه القصيدة كان عبد الحي يبحث عن هُويّة موجودة بالقوة وغائبة بالفعل ، كان يرى في الماضي معنًى ما للمستقبل بعيدًا عن الحاضر وكان ذلك في صورة منه أشبه بما أراده عبد الحي من تأويل للهوية تماهى مع رؤية (جيمس جويس) ، فقد صرح عبد الحي في شرح على هامش القصيدة متأولا ذلك المعنى بقوله : ((في القصيدة ربما كانت سنار دفعة من كيان الفنان في شبابه حينما رغب كما رغب جيمس جويس من قبله أن يشكل في مصهر روحه ضمير أمته الذي لم يخلق بعد)) 1 . والقيام بمثل هذا العبء عبر توسل الشعر كمجاز لمعرفة متصلة بالهوية لم يكن من السهولة بمكان . ذلك أن المعرفة بقدر أتساعها ك(موضوع) في الحالة الشعرية ؛ بقدر ما تنطوي على ضغطها ك(ذات) في رؤية الشاعر. وكان عبد الحي باستمرار يشعر بهذا الضغط عبر جدلية المحو والكتابة المتجددة لهذه القصيدة التي لازمته زمنًا طويلا .
اجترح عبد الحي كتابة مختلفة في التعبير الشعري ؛ سواءً لجهة الموضوع أو لجهة التفرد الذي بدأ صوتًا خافتًا في المشهد الشعري العربي الصاخب بالآيدلوجيا في ستينات القرن العشرين ، حين بدأ محمد عبد الحي كتابة قصيدة (العودة إلى سنار). كان الوصول إلى الهُويّة شعريًّا أقرب إلى الكشف الصوفي منه إلى الإدراك ، بل كانت الهُويّة تَمثُّلا خفيًّا ولاواعيا ، انتبه لها عبد الحي فجأة لقربها الشديد واللصيق من ذاته وقدره ، وتاريخه ، فيما كان يبحث عنها في مطارح أخرى بعيدة ولا يمكن أن توصله أبدًا إلى ذلك الكشف. لهذا صدَّر عبد الحي القصيدة بمقتبس صغير من الفتوحات المكية لمحي الدين بن عربي عن تجربة أبي يزيد البسطامي في خروجه من بلاده بحثًا عن الحق دون أن يدري أنه ترك الحق الذي يبحث وراءه في بسطام. (قال : يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك .
قال : طلب الحق
قال : الذي تطلبه قد تركته ببسطام
فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتح له).
نشيد البحر
في النشيد الأول ، نشيد البحر ، يرى الشاعر أُفقًا غامضًا لأمته المشار إليها بضمير الجمع ، مصورًا بدايات رمزية خاملة ، حيث البحر يحيل إلى معناه الأسطوري الموحش ماءً لبدايات كون غارب يرسم الشاعر من خلاله صورًا تشي بموات الحياة المنعكس في الطبيعة : ثمار بلا شجر ، وظلال بلا شواخص ، أشجار ميتة ، وبقايا لحياة منسية في ظلمة البحر . ذلك أن الشمس الغارقة في البحر هنا ليست سوى صورةٍ بدائية لكينونة الوطن ما قبل تكوين مملكة البراءة ، فهي شمس مكونة من أمشاج غير مكتملة من الفسفور في عالم الماء الموحش .
(أُبْصِرُ كيفَ مَرَّ أوَّلُ الطُّيورِ فَوْقَنَا ودارَ دَوْرَتيْنِ قبلَ أنْ يغيبْ
في عتْمةِ النُّورِ وفي حديقةِ المَغِيبْ
وكانتِ الشَّمسُ على المِياه أمشاجًا من الفسْفُور واللَّهيبْ
تَغرُبُ مِن قلب مياهِ الأفقِ الغربيّ
حديقةً وهْمِيَّةَ الثِّمارْ)
والمعنى المضمر في مشاهد المقاطع الأولى من نشيد البحر التي تلي هذا المقطع يوحي بعلامات ذات غائبة ومنطمسة في البحر حيث : العتمة / الصمت / الظلام / الضباب / المغيب / الغور ، في سياق تتكرر فيه بعض تلك المفردات ؛ لتقوم دلالة على أبدية صامتة توحي بوعد غامض لحياة جديدة ؛ حياة تتجلى عبر النور والكلام واللغة .
هذا العالم الميت الصامت في الغياب حيث تمحو صور الليل صور النهار فجأة تهب عليه رياح جديدة برائحة جديدة ولون جديد ، فمن صمت الموت تزهر الحياة / الكلام ، ومن الظلام تضيء المصابيح :
(وحَمَل الهَوَاءْ
رائحةَ الأرضِ
ولَوْنًا غَيْرَ لَوْنِ هذِه الْهاويةِ الْخَضْراءْ
وحَشْرَجَاتِ اللُّغةِ الْمَالِحَةِ الأصْدَاءْ
وفي الظَّلاَمْ ...
كانتْ مصابِيحُ القُرى
على التِّلالِ السُّودِ والأشجَارْ
تطْفُو وتدْنُو مَرَّةً
وَمَرَّةً تَنْأى تَغُوصْ
في الضَّبَابِ والبُخارْ
تَسْقُطُ مِثلَ الثَّمَرِ النَّاضِجِ في الصَّمْتِ الكَثِيفْ)
بيد أن تشكل صور الحياة المنبعثة من مصابيح القرى كعلامات متأرجحة ومؤذنة بظهور جديد ؛ تبدو هنا خروجًا للنقيض من النقيض ؛ لترتسم بداية جديدة يكون الشجر الحي فيها بديلا عن الشجر الميت ، ولحم الأرض (خصوبتها) . أما الأزهار فهي الحياة المنبعثة من الأشنات والليف في المشاهد السابقة لعالم البحر . والعلامة الدالة على ذلك الوضوح المتشكل من قلب العتمة البحرية هي الطيور
(وارْتَفَعَتْ مِنْ عَتمةِ الأرْضِ طُيُورُ النَّارْ
وهاهِي الآنَ جُذُوعُ الشَّجَرِ الْحَيّ
ولَحْمُ الأرْضِ
والأزْهَارْ)
ويستثمر عبد الحي ثيمة التقطيع ؛ ليضعنا فجأة أمام مشهد للقاء متخيل يجسد اكتمال الهُويّة والكينونة . ومن خلال البحث عن هذا اللقاء تأتي الأناشيد التالية تعبيرًا عن الرؤيا التي تسرد صيرورات هذه الهُويّة ؛عبر عوالم مختلفة وعناصر مزدوجة تؤشر على بدايات التكوين لهُويّة أمته:
(الليَّلةَ يَسْتَقبَلُني أهْلِي
خَيْلٌ تَحْجُلُ في دائرةِ النَّارْ
وتَرْقُصُ في الأجْرَاسِ وفي الدِّيِباجْ
امْرَأةٌ تَفْتَحُ بابَ النَّهْرِ وتَدْعُو
مِنْ ظُلمَاتِ الجَبَلِ الصَّامِتِ والأحْرَاجْ
حُرَّاسَ الُّلغَةِ المَمْلَكَةِ الزَّرْقَاءْ
ذلك يَخْطِرُ في جِلْدِ الفَهْدِ ،
وهذا يَسْطَعُ في قِمْصَانِ الماءْ)
في هذا المقطع يكشف عبد الحي عن الرمز والتكوين الدال عن الهُوية ، فالمرأة هنا دالة الوطن ، والنهر/ (النيل) هنا هو بديل عالم البحر الميت . ودالة الوطن (المرأة) إذ تستدعي اللغة من عالم الصمت ؛ لغة المملكة الزرقاء 2 إنما تستدعي التاريخ في أقنوم الهوية ؛ أي أن استدعاء سكان وحراس تلك المملكة الزرقاء عبر مخيال تاريخي في أفق الحاضر هو ما يعني اكتمال الهُوية .
فحين يقول عبد الحي :
(ذلك يَخْطِرُ في جِلْدِ الفَهْدِ ،
وهذا يَسْطَعُ في قِمْصَانِ الماءْ)
يشير إشارة واضحة إلى عنصري التكوين المزدوج للذات السودانية المندمجة في (الزنوجة والعروبة) لأول مرة بقيام المملكة الزرقاء2 . وهي أول مملكة التي جمعت بين الزنج والعرب في حلف واحد في القرن الرابع عشر ، وكانت عاصمتها مدينة (سنار) . وهنا نجد أن عبد الحي يذكر المملكة الزرقاء صراحة كدلالة تاريخية في نشيد البحر المكثف بالرموز ؛ مؤذنًا بنهاية الزمن المطلق والمكان الموحش في عوالمه. وسينطلق الشاعر في بقية الأناشيد الأربعة من هذا التكوين ؛ ليختبر المعنى الرمزي للهوية عبر الكثير من تأويلات الرؤى الشعرية . لكننا سنجد أيضًا أن بناء الرؤية في بقية الأناشيد يتصل بنشيد البحر في سياق بناء نقيض لرموزه كما سنرى لاحقا .
نشيد المدينة
بالرغم من أن المدينة المعنية هنا هي مدينة (سنار) المهد التاريخي للمملكة الزرقاء إلا أن رؤية الشاعر للمدينة هنا تحيل إلى مستوى رمزي لسنار . فسنار في الخطاب المضمر للنص هي فضاء الوطن المشتهى في المستقبل .
يبدأ النشيد بعودة بين زمنين ومكانين ، فالشاعر إذ يصرح بأنه سيعود إلى سنار اليوم ؛ تبدو العودة من خلال السياق عودة في زمن لاحق (المستقبل) ؛ لأنها عودة متصلة بالحلم. ولتحقيق تلك العودة (الحلم ) يربط الشاعر بين الثمر الناضج والجذر القديم ، بين الصوت والصدى ، كما بين ماء الليل وليل الدماء في حالة رمزية تشير إلى المعنى بأكثر من وجه . ومن خلال نشيد المدينة (سنار) يستدعي عبد الحي حوارًا مع أهلها ، الحوار هو نتيجة اللقاء المتخيل في نشيد البحر ، وهو جوهر المعنى في هذا النشيد ؛ لأنه علامة الوصول التي تهيّء للدخول إلى (سنار) بعد رحلة طويلة في المتاهة . ويبدو أن عبد الحي كتب هذا النشيد ، حين كان في بريطانيا أثناء الدراسة العليا .
(سَأَعُودُ اليَوْمَ يا سِنَّارُ حَيْثُ الحُلمُ يَنْمُو تَحْتَ مَاءِ الليل أشْجَارًا
...................
سَأَعُودُ اليَوْمَ يا سِنَّارُ حَيْثُ الرَّمْزُ خَيْطٌ
مِنْ بَرِيقٍ أسْوَدَ بَيْنَ الصَّدَى والصَّوْتِ
بَيْنَ الثَّمَرِ النَّاضِجِ والجَذْرِ القَدِيم.)
وكما فصل عبد الحي بين زمن البحر (زمن الغياب وما قبل التكوين ) وبين زمن التكوين بعلامات مضمرة ، في نشيد البحر ومتذررة في بقية الأناشيد كعلامة (طيور النار) ، نجده كذلك يستصحب تأويل البحر ورموزه داخل النص في نشيد المدينة ، ذلك أن نشيد البحر ، كما أسلفنا سابقا ؛ هو النقيض الذي تتكشف من خلاله الهُوية في الأناشيد ، وبهذا المعنى فإن البحر هنا يحمل أكثر من دلالة على الغياب ؛ سواء لجهة الفضاء التاريخي السابق لتكوين المملكة الزرقاء ، أو لجهة المكان المحايث والزمان المحايث للشاعر بعيدًا عن التحقق الذي ظل ينشده بحثًا عن الهوية .
(فافتحوا حراس سنار افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
بَدَوِيٌّ أنْتَ ؟
- لا
مِنْ بِلادِ الزِّنْجِ
- لا ،
أنا مِنْكُمْ تَائِهٌ عَادَ يُغنِّي بِلِسَانٍ
ويُصَلِّي بِلِسَانْ
مِنْ بِحَارٍ نَائِيَاتٍ لَمْ تُنِرْ في صَمْتِهَا الأخْضَرِ أحْلامُ المَوَانِيء)
ومن خلال الحوار يسرد الشاعر رؤاه فصولا من سفر الغياب والمتاهة ، وهي رؤى تتجلى عبر الحواس وتتخذ من عوالم البحر وإشاراته الدلالية في النص قناعًا لذلك الغياب ، عبر تلك الرؤى الغامضة يبحث الشاعر عن أيقونته الساحرة في الأمواج العظيمة للبحر ؛ فيرى ويسمع أشكال غامضة في طور التخلق : الهيكل العظمي ، واللحم السائل ، والأصوات المجمجمة بكلام مهموس ، ثم يشهد الشاعر في عالم البحر انزياحات مختلطة لمشاهد مكانية وأراضٍ تحيل على التباس الرؤيا ، يوحي الشاعر عبرها بقناع المكان الذي هجس فيه بتلك الرؤى (بريطانيا) المختلطة برمزي التكوين : الزنوجة والعروبة ، في إشارة واضحة ، كذلك إلى استصحاب الآخر كدلالة مضمرة للمكان من ناحية ، وكتماهٍ مع تقنية في الكتابة الشعرية العربية القديمة من ناحية ثانية .
(بَاحِثًا بَيْنَ قُصُورِ المَاءِ عَنْ سَاحِرَةِ المَاءِ الغَرِيبَة
.............
وسَمِعْتُ ما سَمِعْتُ
ضَحَكَاتِ الهَيْكَلِ العَظْمِيِّ ؛ واللَّحْمِ المُذَابْ
فَوْقَ فُسْفُور العُبَابْ
يَتَلَوَّى وهو يَهْتَزُّ بِغُصّاتِ الكَلامْ .
وشَهِدْتُ ما شَهِدْتُ
...................
صَاحِبِي قُلْ ما تَرَى بَيْنَ شِعَابِ الأرْخَبِيلْ؟
أرْضَ ديكِ الجِّنِّ أمْ قَيْسِ القَتِيلْ ؟
أرْضَ أَوْدِيبَ ولِيْرَ ، أمْ مَتَاهَاتِ عُطَيْلْ ؟
أرْضَ سِنْغُورَ عَلَيْهَا مِنْ نُحَاسِ البَحْرِ صُهْدٌ لا يَسِيلُ؟)
هكذا إذ يستخدم عبد الحي تقنية التقطيع من خلال الحوار في هذا النشيد ؛ تبدو تفاصيله سردًا لمتاهة الغياب المفضية إلى المدينة ،ذلك أن معنى الحوار لن يكتمل في نهاية النشيد إلا بتلك التفاصيل التي يحضر فيها البحر كعلامة لذلك الغياب ؛ الذي من خلاله يصل الشاعر ثم يدخل في مدينته . لقد ذكر الشاعر البحر صراحة وتأويلا أكثر من ستِّ مرات في نشيد المدينة ؛ ليرسم عبر تلك العلاقة بين الرمزين حدود المعنى وحدود الهُوية وحدود المكان ؛ ويختبر عبد الحي غنائية مفعمة بالعواطف ليتمثل معنى الهوية :
(وبَكَيْتُ ما بَكَيْتُ :
مَنْ تُرَى يَمْنَحُنِي
طَائِرًا يَحْمِلُنِي
لِمَغَانِي وَطَني
عَبْرَ شَمْسِ المِلْحِ والرِّيحِ العقَيِمْ
لُغَةً تَسْطَعُ بِالحُبِّ القَدِيمْ)
فالطائر هنا هو علامة الرؤية والوضوح ، فيما شمسُ الملح هي البحر الذي تاه فيه طويلا . وسنجد أن للطيور في نشيدَيْ البحر والمدينة علاقةً بوضوح الرؤيا وظهور المعنى الدال على الهوية . ففي نشيد البحر قال عبد الحي :
(وارْتَفَعَتْ مِنْ عَتمةِ الأرْضِ طُيُورُ النَّارْ) ، ثم قال بعد ذلك في ذات النشيد
(وهاهِي الآنَ جُذُوعُ الشَّجَرِ الحَيّ
ولَحْمُ الأرْضِ
والأزْهَارْ)
أما في نشيد المدينة ؛ فيقول عبد الحي مؤذنًا بوضوح الرؤيا بعد المتاهة في البحر :
(حَيْثُ آلافُ الطُّيُورْ نَبَعَتْ مِنْ جَسَدِ النَّار)
ليعيد بعد ذلك استئناف الحوار مخاطبًا حراس المدينة التي وصل إليها :
(فَافْتَحُوا ، حُرَّاسَ سِنَّارَ ، افْتَحُوا لِلعَائِد ِاللَّيْلَةَ أبْوَابَ المَدِينَهْ)
وليجد جواب المعرفة من حراس المدينة :
(إنَّنا نَفْتَحُ يا طَارِقُ أبْوَابَ المَدِينَهْ)
وهكذا يدخل الشاعر إلى مدينته التي تاه بعيدًا بحثا عنها ؛ فيما هي قريبة منه؛ لينام :
(مِثْلَمَا يَنَامُ في الحَصَى المَبْلُولِ طِفْلُ المَاءْ
والطَّيْرُ في أعْشَاشِهِ
والسَّمَكُ الصَّغِيرُ في أنْهَارِهِ
وفي غُصُونِهَا الثِّمَارْ
والنُّجُومُ في مَشِيمَةِ السَّمَاءْ)
* ناقد وشاعر سوداني الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.