هناك يعيشون في (الرانجوك، وقبوجة، وزحل، والله أدانا، والفردوس، وكرري) وغيرها من القرى بالمنطقة المسماة بمحلية الجاموسي بولاية الجزيرة. أسماء قراهم كثيرة تفوق ال(40) اسماً لكن مصيرها واحد. هناك يعيشون، هم نحو 25 ألف نسمة يعيشون كما لو أنهم يمتثلون لعقاب على جريمة غامضة اشتركوا فيها جميعاً. لم يخرجوا في مظاهرة ولو واحدة على أنظمة الحكم المتعاقبة، يتعاملون مع أخبار السياسة كما لو أنها تخص شعباً آخر يسكن بعيداً بعيداً وراء البحار. يتمسكون بحياة زهيدة وبائسة ويدافعون عنها حد الموت بالصلاة فقط أو التسبيح حين يتسع له الوقت. يخرجون من بؤس البيوت في الصباح الباكر نحو الحواشات والمزارع، ويعودون إلى ذات البؤس في الغروب المتأخر، وربما تخلف نفر منهم ولا يعودون حتى الصبح شفقة ببذرة دست في باطن الأرض لو أنها تنبت خيراً ولو قليلا. سكان هذه المنطقة المسحوقة المهملة لم يفعلوا شيئاً يثير غضب أحد ولو كان عدواً ذا نتانة. لم يقاتلوا في حياتهم غير هذه الطبيعة البائسة حين تتربص بحواشاتهم ومواشيهم. ولا يكرهون إلا بؤسهم الأسود المقيم حين يطال أحلامهم الضئيلة. من أجل هذا فقط ربما يموتون جميعهم. وحينها سيكونون بكل أسف ضحايا لا شهداء، وشتان ما بين الميتتين. (1) كان ثلة من الصبيان أنصاف العراة وبعض الشباب ينتظروننا في مدخل قرية (كرري) حين اخترنا الولوج إلى محلية الجاموسي من آخرها المتاخم لولاية النيل الأبيض. كان بعضهم قد أحدث حفراً صغيرة على التراب الممسوح لممارسة لعبة شعبية تسمى (ضالت) يشترك في لعبها الضاجّ أكثر عدد من اللاعبين، وقيل إن هذا التجمع من الناس في حالة بطالة مستمرة، وانتظار دائم للسيارات القادمة من مدينة ربك القريبة. يقول مرشد الرحلة عبد العظيم البشير إن الطريق الذي نسلكه الآن إلى داخل قرى الجاموسي هو الأسهل، وكان يقصد بالطريق الأسهل هو أن نسلك شارعا ترابيا مهملا يحاذي قناة كبيرة بعض الشيء (ميجر) قيل إنها تتفرع من ترعة المناقل، وتتجه جنوباً لتنتهي عند قرية كرري بالقرب من جبلين صغيرين يسميان لصغرهما ب(التويمات) قبل أن تتفرع منها قناة أخرى في المنطقة (50) وتتجه غرباً ثم جنوباً بالقرب من قرى كادوس، وزحل، وقبوجة، والفردوس. ويعتمد أغلب سكان قرى الجاموسي على هاتين القناتين في توفير مياه الزراعة والشرب لهم ولمواشيهم طوال العام، عدا أشهر مارس وأبريل ومايو، وهي الشهور التي تتوقف فيها العمليات الزراعية كلية، حيث تنعدم فيها المياه تماماً إلا من برك متقطعة على القناتين. يقول محمد مصطفى، وهو راع للمواشي من قرية الفردوس: "بعد جفاف الترع من المياه نقوم في رحلة جماعية بالمواشي إلى النيل الأبيض في المناطق القريبة من مدينة الكوة والكنوز حتى مدينة الجزيرة أبا. ولا نعود إلى القرى إلا في شهر أغسطس حين تكون الأمطار قد انتظمت تماماً". (2) الطريق ترابي به كثير من النتوءات والحفر التي خلفتها آثار إطارات السيارات والتراكتورات وهي تغالب الوحل في فصل الخريف. وأحياناً يقود تفادي الحفر أصحاب السيارات إلى استغلال حافة الميجر العالية مما يعرضهم للسقوط داخله. إذ لقي الشاب السماني أحمد عبد الله (30 سنة) وهو من قرية الرانجوك؛ مصرعه وأصيب آخرون في حادث سقوط وابور تراكتور داخل الميجر. كان يقوم على نقل المواطنين إلى المدن القريبة (بصّان) اثنان أحدهما يتحرك من قرية (زحل) في الدغش الباكر ماراً بجميع القرى حتى يصل إلى مدينة ربك عند الحادية عشرة صباحاً، ثم يعود في المساء. أما البص الآخر فكان يتحرك من قرية (ود اللبيح) في ذات توقيت الأول ليمر بجميع القرى وصولاً إلى المناقل عند العاشرة صباحاً، ثم يعود مساءً في ذات رحلته. هذا قبل أن تنتشر ثقافة السيارات الصغيرة من ماركة تويوتا (78) (83) حيث يستغل الركاب أحواضها غير الوثيرة للركوب ونقل جميع الأشياء، ولا يقيهم من حر الصيف إلا حبات العرق التي تغطي أجسادهم. تتراص القرى قرباً وبعداً على حافتي الميجرين، وهي ترقد في مساحات واسعة تتوسط الحواشات، مما يصعب عملية تحديد أيهما السابق للآخر في الوجود؛ القرى أم تخطيط مشروع امتداد المناقل؟ غير إن الثابت أن كليهما مكمل للآخر في السهل الزراعي المنبسط الواقع ما بين هضبة المناقل شرقاً والمنطقة شبه الصحراوية شمال مدينة الكوة غرباً، إذ أصبح هذا السهل مكاناً جيداً لإقامة مكاتب التفاتيش الزراعية (التويمات، سقدي، الرانجوك، قبوجة، الرضي، وقيع الله، أبو الكيلك)، ويعتبر السكان جميعهم بمثابة عمال في الحواشات الزراعية بغض النظر عن ملكيتهم للأراضي من عدمها. يقول عبد الرحمن محمد قسم السيد (50 عاماً) وهو من قرية الرانجوك، إن جده ولد وعاش في هذه المنطقة عاملاً في الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، وإنه ورث الحرفتين معاً وما زال يعيش عليهما. لكنه يعتبر حديثه ل(الأهرام اليوم) فرصة لعكس شكواه للمسؤولين حول الضعف الذي أصاب الزراعة بعد تطبيق قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005 ويشير عبد الرحمن إلى أن أغلب المزارعين غادروا في الفترة الماضية إلى مناطق التنقيب عن الذهب الذي سمعوا عنه. ويقول إن السبب في ذلك أن الزراعة لم تعد بذات الوفرة والخير العميم. وغير أصحاب الذهب فإن آخرين من المزارعين تسربوا إلى العاصمة الخرطوم للعمل في المهن الهامشية. (3) النظرة العامة في حياة المواطنين تشير إلى أن قرى الجاموسي فقيرة بكل تعريف اعتمدته للفقر – فقر الدخل والفقر الذاتي. ويعتقد المواطنون أنهم فقراء ويصفون أنفسهم وحياتهم بذلك. ويبدو القاسم المشترك في معظم تصورات الفقر لديهم هو النقص والعوز، رغم مفارقة غنى الجغرافيا حال كونهم يتوسطون رقعة زراعية غنية بمقومات الإنتاج الزراعي. فقرى الجاموسي بعيداً عن الإحصائيات غير الموجودة أصلاً، تبدو أفقر من قرى محلية ود مدني عاصمة الولاية، وأفقر من قرى محلية المناقل عاصمة المحافظة، إذ يضعف فيها الحصول على السلع العامة كالصحة والتعليم والغذاء أو غيرها من الخدمات، فأصبحت بذلك تجسيداً حاضراً لمقولة الرأس الكاسح والجسد الكسيح طبقاً لتعبير المصري جمال حمدان في وصفه للقاهرة. وتنتشر في قرى المنطقة أمراض الدرن وسوء التغذية إضافة إلى تفاقم الفاقد التربوي الذي يعتبر الأكثر وضوحا في المجتمعات المحلية. وباستثناء (3) قرى فقط بها مراكز صحية لا توجد أي خدمات صحية. وسوى المدارس ذات المباني المتهالكة ومركزين للشرطة في قريتي (قبوجة ومريحلة) فلا وجود لأي مرافق عامة بالقرى على إطلاقها. كنا ضيوفاً على النور عوض الكريم، وهو من قرية الفردوس، حينما ألحّ علينا أن نحضر وجبة الفطور بمنزله. كان مطبخ إعداد الطعام لديه عبارة عن راكوبة من بقايا سيقان القصب مغطاة بجوالات خيش مهترئة. كان ينبعث من مطبخه دخان كثيف وصوت لامرأة يؤكد باستمرار أن الطعام الذي هو -عصيدة من الذرة يخالطها إدام شعبي- على وشك أن ينضج. وكان عوض الكريم يتوسم فينا وهو يحادثنا بفرح طفولي أننا نمثل جهة حكومية نافذة فطفق يمطرنا بعبارات المدح من شاكلة (أرجل ناس- وفرسان) لكنه لم ينس بين الفينة والأخرى مطالبتنا نيابة عن المواطنين في قريتهم بأن نمد لهم الكهرباء أسوة ببقية القرى التي دخلتها الكهرباء قبل أقل من شهر. يقول عوض الكريم عن المرافق العامة في قريته: "نحن لدينا مدارس ومسجد فقط ولم تقم الحكومة ببناء أي شيء خلال العشرين سنة الماضية".