الواسطة.. المحسوبية.. الولاء، كلمات تشبه بعضها في المعنى والمضمون والنتائج، وقطعاً هي مفردات وسلوك وأدب ليس بالجديد، فهي ظواهر معروفة وخبرها الإنسان وتفنن فيها باعتبارها أقوى السلالم للوصول إلى المبتغى والغاية. إذن هي وصفة (مرضية) لم يفلح الضمير الإنساني في معالجتها، وهي في الأنظمة الثورية وغير الثورية موجودة ولا يوجد من يقتلع جذورها أو يهددها. فلماذا إذاً لا تنتهي بمرور الزمن وتطوره؟ وعندما نطرح هذا السؤال نجد أن الإجابة سريعة وفورية، ذلك بأنها الأقوى (الواسطة) لأنها صارت ذات صفة وشخصية اعتبارية تفرض نفسها كثقافة وداء عصر لا فكاك منه، فهي كالأيدز وكالسرطان ينهش في عضد الدولة، وبالتالي فمن يناطحها أو يقاومها كأنما يناطح صخرة.. كيف لا وهي أمراض عصر قديم وحديث، موجودة في كل الدول والمجتمعات في العالم، ولكن قد تتفاوت الدرجات وحدة المرض. من هنا يجب أن نتفاكر جميعاً - ونحن جزء من العالم - حول ما سنصنعه أو ما الذي يمكننا فعله من أجل مقاومة ومكافحة هذه الأمراض العضال. نقول هذا لأن الدولة الآن قد طرحت وظائف كثيرة ضمن الميزانية الجديدة ونخشى ما نخشى على هذه الوظائف من مسألة اسمها الواسطة والمحسوبية ومن قبلهما الداء السياسي اللعين المتخبئ وراء كل ذلك تحت ستار (أهل الثقة والولاء)، فقد شبعنا من ذلك كثيراً، ولهذا نريد أن نقدم تجربة جديدة خالية من كل تلك الأمراض. الآن عندما نتحدث عن الخدمة المدنية والمؤسسات المختلفة وتطورها؛ يجب أن لا تغيب عن أذهاننا مثل هذه الظواهر التي أتت بأناس كثر صاروا بمرور الزمن من أقوى المدافعين عن هذه الثقافة (الواسطة) بل ويدعون إلى اندياحها وإشاعتها من موقع إلى موقع مع دخول عنصر جديد هدام آخر هو ذوو القربى والجهويات. منذ الاستقلال وحتى الآن لم تستطع أية حكومة أتت إلى هذه البلاد سواء كانت مدنية أو عسكرية، أن تواجه هذا الطوفان وهذا الطابور السادس الذي يأتي تحت اسم أهل الحسب والولاء، المتربع خلف اللافتة العريضة (الواسطة)، ولا نستثني هنا مرحلة أو نظاماً كل حسب درجات بقائه في السلطة، وحتى الأنظمة التي تسمي نفسها ديمقراطية لم تستطع هي الأخرى أن تخرج أو تنأى بنفسها عن هذا، فإذا نظرنا للديمقراطية الثالثة مثلاً التي حكمت فيها الأحزاب في الفترة من 1986م إلى 1989م كان هذا الداء العضال معلماًَ بارزاً فيها، فما لم تكن حزب أمة وفي حزب الأمة أنصارياً، وما لم تتم تزكيتك كمتقدم لأية وظيفة في أي موقع، فلن تحظى بشيء، وهنا تضيق الحلقة عند أهل الحزب الواحد، فما لم تكن أحد أقرباء هذا أو ذاك من الشخصيات الجهنمية صانعة القرار، فلن تتقدم أيضاً مهما اجتزت من معاينات قد تبدو لك في البداية نزيهة وعلنية، وكذا الحال في الحزب الآخر من تلك الفترة، فإن لم تكن حزباً اتحادياً ديمقراطياً بمنظور الولاء، وفي الحزب الاتحادي إن لم تكن تحظى بسند ومدد الختمية، فلن تنال شيئاً في ذاك الزمان. أما في تجربة حكم الإسلاميين فحدث ولا حرج، هم أيضاً صالوا وجالوا هنا تحت مسميات أهل الولاء ورضاء الشيوخ، وتزكيتهم أيضاً كانت هي بطاقة المرور للوظيفة العامة. وعلى فكرة لقد نفى كبار الإسلاميين لقب (شيخ) هذا، وقالوا إنه لا يوجد في عالم الحركة الإسلامية ترتيب، أي لقب (شيخ)، وذهب آخرون إلى أن كلمة شيخ هي عبارة تطلق وسط المجتمعات فقط، يعني (ونسة). فيا أهل بلادي اتجاهنا القادم جميعاً لإرساء دعائم دولة الشمال يجب أن يقوم على أهل الخبرة والكفاءة، لا على أهل الولاء (الواسطة