قناة (أيه بي سي) الأمريكية تعرض فيلماً يصور طفولة الرئيس أنور السادات في الخرطوم منتج جديد للقضاء على (الحشرة) الشعبية تطرحه السفارة السودانية (التلويحة شارة للبعد، للغياب) تغلب هذه المشاهد في السفر عادة، فتاة صغيرة تركض كالأرنب البري في باحة مطار الخرطوم وتختبئ في حجر والدتها (ماما ماما أنا حرانة) الآلاف يهربون من جحيم الصيف، هذه العاصمة الساخنة والمثخنة بالجراح لا تغرب عن وجهك أبدا.. أبدا، هدير محركات الطائرات يكتم أنفاس المكان، ومانشيتات الصحف سوداوية راقصة كالعادة في سيرك الإثارة.. هجليج في قبضة الأعداء، والأعداء كانوا بالأمس القريب شركاء السلام، سلفاكير يدخل في حلف مع الشيطان دون أن يعلم بأن الحياة تعد له فخا قميئا، عاطف خيري هو الذي سكب تلك القصيدة المشؤومة وليس أنت (بلادٌ كلما ابتسمت حط على شفتيها الذباب) والمغني هو الذي كان ينوح آخر الليل (الفينا مشهودة..) سبحان الله، يتمتم شيخ في الركن القصي "نحن أولاد بلد نقعد نقوم على كيفنا" والآخرون هم الجحيم بالطبع، النيل بعيد جدا وقريب جدا من دمك، دمك الأشد توهجا، طائرة الخطوط الجوية الكينية بمضيفاتها الرشيقات تذكرك (بنيفاشا) وما أدراك ما نيفاشا، ضجيج مرتفع على مقربة من الصرافات (نأسف لدينا يورو وليس لدينا دولارات) والأخير كالزئبق الأحمر في ندرته وفي وظائفه السرية. تقلع الطائرة بنهم وتبدو الخرطوم من علو شاهق كفراشة حائرة في الظلام. القاهره - عزمي عبد الرازق (1) الثانية عشرة ليلا إلا قليلا بتوقيت القاهرة، هذه المدينة تضرم بالدواخل رغبة عارمة في الرقص والغناء والعبادة معا، من حين لآخر تسمع قهقهات تحدث في عمقك زهوا، لأن الناس هنا ينتصرون على الموت عندما يستميتون في التعلق بالحياة، "التحرير" هادئ بعض الشيء إلا من (ولاد أبو إسماعيل) الذين تسمع لهم دويا كدوي النحل وهم يتلون القرآن في جنبات الميدان الذي احتلوه بشكل كامل، اشتعال الحرب بين العسكر والإخوان، الصراع المكتوم بعد فاصل من الغزل وشهور من العسل، كنت تبحث عنها، دراما (الكاب) (واللحية) وسطوة المشير الذي يحرس أرض الكنانة من اللصوص، الإخوان يعرفون العسكر جيدا والمطامع تشتعل، فالسلطة المطلقة مفسدة، يصمت العسكر ويظهرون في السيرك المسائي وفي جرابهم (أرانب وقطط وأشرطة ملونة..) جدل الدستور والرئاسة، أبو الفتوح في مواجهة عمرو موسى، أبو الفتوح ينتصر في النهاية وفي معيته وائل غنيم رمز الثورة، والتيار الإسلامي سندها الأكيد، مجلس الشعب في مواجهة حكومة الجنزوري وعاصفة على السياحة، (البلطجية) كائنات حية تختبئ أسفل المدينة وتعتلي المخاوف، ويعلو ضجيج الوصايا العشر في المخيلة؛ لا تخرج ومعك زوجتك بالثوب السوداني حتى لا يسهل اصطيادك، تجنب حمل نقودك في جيبك أو إيداعها في الفندق، الذهب معدن جاذب (للحرامية) لا تتسكع في الشوارع غير المضاءة، وعاطف أفندي خيري ذاته يسلبك ما تبقى من رباطة جأشك؛ (من بحّة في نباح الكلاب يعرف اللصّ طعم الغنيمة).. سيناريوهات الموت والضياع حاضرة بمجملها، ولكنّها مصر بألقها وجاذبيتها وتاريخها الغائر في جوف الممالك؛ الملك فاروق وناصر وحسن البنا ويوسف الصديق، المعز لدين الله الفاطمي وعمرو بن العاص ومحمد علي باشا، نجيب محفوظ وأم كلثوم وعلاء الأسواني، شيرين الممنوعة من الغناء في الخرطوم إلى حين وأبو تريكة؛ الإخواني الملتزم. (2) الإخوان والعسكر لا يختلفان، كل منهما يربي عضلاته ويدخرها للمواجهة، وكل منهما يؤمن بالقوة المطلقة، وكل منهما تعود على السمع والطاعة وتنفيذ الأوامر من أعلى إلى أسفل بشكل مطلق، الإطلاق على عواهنه والصدام أكيد، بعد أن كان الجنرالات (فتية آمنوا بربهم) أصبحوا اليوم كفار (قريش) استعصموا بالنياشين ساعة أن أطلت الفتنة الحمراء برأسها فوق رؤس الجميع، وربما شفعت رومانسية الثوار لهم بعد أن تحولت الثورة أيضا إلى وجهة نظر، الصفقات لم يتوقف زحفها بين الجانبين منذ أن غربت شمس مبارك، كانت نوعا من تسمين الخصم ليكون لحمه طريا، ولربما كان الإخوان يريدون ذبح العسكر على طريقة الشريعة بينما العسكر يعدون لهم (الدروة) لتنفيذ الإعدام رميا بالرصاص، مصر التي يطل فيها أبو الفتوح من الهامش ببراعة فيقترب من عرشها الذي اعتلاه الفرعون في زمان غابر، ذلك الطبيب ربما يكون بل هو بالفعل مرشح الإخوان السري، هم الرابحون في حالة الفوز والخسران، ولربما أيضا تعلموا التمويه والتآمر من إخوان لهم في الخرطوم (اذهب للقصر رئيسا وسأذهب للسجن حبيسا). (3) الربيع يوقظ في الروح طلاقتها، مصر التي تحدث عن نفسها، عتاة المعارضين السودانيين الذين استعصموا بقاهرة المعز، حسنين والمحبوب وكتيبة من الصحفيين يلوذون بمقهى (البستان)، كتاب المحبوب عبد السلام ينفد (الحركة الإسلامية خطوط الضوء..) ولكنها شهادة مجروحة في حق إخوان المنشية كما يرى الكثيرون، الكتب الممنوعة تفسح لنفسها حظا من الانتشار.. مؤلفات حيدر إبراهيم، وآخر للأستاذ نقد سكرتير الحزب الشيوعي الراحل (الرق في السودان).. (بنات الخرطوم) تلك النشرة القبيحة التي أعدتها امرأة مثيرة للجدل، تفضح بنات وطنها بقذارة مثل عبده خال تماما في روايته الفظيعة (ترمي بشرر..).. بوح قذر، وبالطبع لن يصدقها أحد مثلما ارتدت نحوها السهام وطعنتها في مقتل. في احتفال السفارة السودانية بمناسبة عودة مدينة هجليج إلى حضن الوطن تداعى الجميع: طلاب وسيدات أعمال وتجار لم ينسوا هويتهم فارتدوا العمامة، السر قدور أطل ببدلته الإفرنجية وقدم فذلكة تاريخية عن الأغنية الوطنية وأيد فريق (أغاني وأغاني) الذي ارتدى الميري، وفند بعض المغالطات التي تتصل بالهوية (من نحن)؟ أفاض السفير في الحديث وتغنى البعض (بالنار ولعت) واشتعلت جذوة الجهاد في النفوس الرطبة من طقس المدينة، أحدهم أشهر لافتة كتب عليها باللون الأسود (نطالب الرئيس عمر البشير بعدم استيراد أسلحة بعد الآن والتعاقد مع إحدى شركات المبيدات الحشرية لاستيراد مبيد حشري قوي للقضاء على الحشرة الشعبية والذباب الذي يحلق خلفها). (4) الحنين إلى شوق ما يعتري الدواخل، تستيقظ طيور الوطن فيبدو متسعا على نحو جديد، موسى عليه السلام ولد في السودان وقذف في مجرى النيل في صندوق خشبي صنعه نجار سوداني فأودعته أمه بفؤادها الفارغ على مقربة من جبل البركل، يحدث الناس شيخ آخر بهذه الحقيقة، النيل أبو قرون في سفره الذي أثار كل هذه الجلبة (نبي من بلاد السودان)، صحيفة مصرية قديمة تعرض ملامح من سيرة المشير محمد نجيب أول حاكم مصري يحكم بلده، في ناصية مقهى (الفيشاوي) الذي كان يرتاده الروائي العالمي نجيب محفوظ تنتصب تلك الصحيفة، سيرة الرجل تنحدر به نحو الخرطوم، مصر التي حكمها الفرعون الأسود بعانخي يعتلي قمة ثورتها رئيس آخر من بلاد السودان.. نجيب الذي غدروا به وانقلب عليه عبد الناصر!! دارت دورة الأيام لتفسح الأقدار لعبقرية فريدة هي بالطبع الرئيس السادات، في الليلة التي أسفر صباحها عن الأسبوع الثالث من شهر أبريل المنصرم عرضت قناة (أيه بي سي) الأمريكية فيلما وثائقيا عن أنور السادات تخللت العرض صور لبطل الحرب والسلام وهو طفل صغير يركض في أزقة مدينة توتي، الفيلم النادر أشار إلى أن السادات ولد في السودان وكان والده يعمل بالري المصري وعاش بعضا من طفولته في جزيرة توتي، ملامح الرجل توحي بأنه (بلدياتنا)، وقد أعادت قناة دريم عرض الفيلم الوثائقي في الليلة التي تليها مباشرة في برنامج الطبعة الأخيرة الذي يعده ويقدمه الأستاذ أحمد المسلماني حتى لا تبدو تلك الحقيقة فرية للتاريخ، غالب حكام مصر هم سودانيون بالأصالة