إفادات ساخنة في طقس بارد، هو أكثر ما يمكن أن يوصف به هذا الحوار. الشمس تمارس عادتها في الركض خلف البنايات الأسمنتية القديمة. نهارات الثورة وليالي الأنس لا تنضب أبدا، محلات (الكشري) و(الكباريهات) والمقاهي والمآذن التي يتصاعد صوتها في الفضاء توحي بأن القاهرة كالعهد بها دائما؛ مدينة تصلي بلسان وتغني بلسان آخر. (كيلوباترا العصر) هو أقل وصف يمكن أن يطلق على الدكتورة نوال السعداوي، هذه السيدة العربية المتمردة على كل شيء، ولكنها في واقع الأمر متصالحة مع نفسها على نحو باهر، تبتسم في وجهك قبل أن تتحدث وتلاطفك وفي عيونها وداعة (الحبوبات). امرأة من زمان الحب والبريق، طاعنة في السن إلا أنها تبدو كصبية يافعة يختبئ في عينيها كنز الفرح، لا تمشط شعرها أبدا ولا تصبغه ولا تغطيه وإنما تتركه عصيا على (المقابض) يتطاير في الأفق القصير كأنها هبطت للتو من رحلة (بالبراشوت). شعرها الأبيض النبيل الذي يشبه لوزات القطن المتفتحة هو أكثر ما يميز مظهرها، وبالرغم من ذلك تبدو أنيقة في هندامها الذي فصلته بعناية ليناسب هيئتها، على كتفها (شال) وردي مسدل. في أحد أحياء مصر القديمة تقطن الدكتورة نوال السعداوي بلا ضجيج، بعض رجال الأمن يحرسون بيتها المكون من طابقين؛ لربما بسبب الرسائل والتهديدات التي تمطرها كل حين والآخر. تستقبلك بنفسها عند مدخل الصالون ولا تفضل التقاط الصور ولكنها تتحدث غير آبهة للتابوهات.. (لا يخيفني الموت ولا السجن) هكذا تحدثت ل(الأهرام اليوم)، طوفت في قضايا المرأة المسلمة والعربية، نبشت حقيبة أسرارها وتفاصيل حياتها الخاصة، وهي بذلك ترش العطر على الجرح المعروض للفرجة، قلبت الطاولة في وجه الجميع وهاجمت رجال الدين والسياسة بضراوة، تحدثت على طريقة الجراحين الكبار وهي المتخصصة بالأساس في مجال الجراحة الصدرية. الرحلة في دهاليز عقلها شاقة ومحفزة على التوغل، جسنا في ثنايا المشهد العربي، والسوداني، المشروع الحضاري وتجربة الإسلاميين في الحكم، الثورة وصعود التيارات السلفية، كتاباتها الممنوعة ورواياتها المثيرة للجدل. ولدت نوال السعداوي في العام (1931) بكفر طهلا، وهي قرية صغيرة شمالي القاهرة، طبيبة نفسية نالت شهرة عالمية، وقد لفتت الأنظار إليها بمجرد صدور كتابها الأشهر (الأنثى والجنس) وهو الكتاب الذي يعالج موضوعا محرما أدى في النهاية إلى إقالتها من منصبها كمديرة للصحة العالمية، وخسرت بسببه وظيفتها كرئيسة تحرير في المجلة الطبية، وتعرضت لحملة واسعة انتهت بها في النهاية إلى سيدة مهددة بالقتل بعيد التلويح بتطليقها من زوجها. غاصت بمشرطها في عدد من القضايا والأسئلة التي نثرتها أمامها (الأهرام اليوم) فإلى مضابط الحوار حاورها من القاهره - عزمي عبد الرازق \ صباح موسي \ أولا يا دكتورة اسمحي لنا أن نعود بك للوراء قليلا.. (25) يناير هي الثورة التي كنت تحلمين بها؟ - هى فين الثورة، الثورة أجهضت تماما، كانت في الأول وقد نجحت في إسقاط رأس النظام ولكن جسده موجود في كل مكان، وحتى الآن لا يسمح للذين يعارضون الحكومة والمجلس العسكري بالتحدث في الإعلام الرسمي، في الأول أزيح مبارك وأحسست بها كأنها الثورة التي كنت أحلم بها منذ طفولتي، وكرست عمري لأجلها، تصورتها في خيالي، وبالرغم من ذلك فأنا لم أفقد الأمل لأن الأمل قوة. * كيف أجهضت؟ - أُجهضت عندما أُفرغت من الأهداف التي جاءت من أجلها والمتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة، وتلاحظ نفس المشاهد، القوى السياسية والاقتصادية التي هيمنت منذ عهد مبارك لا تزال تتسيد الواقع ولا يسمح بالحديث والعمل السياسي إلا للموالين للنظام السابق أو المجلس العسكري، وأنا حتى الآن لا أستطيع أن أتحدث في التلفزيون المصري. * ألم تفزعك التيارات الإسلامية التي تصدرت المشهد فجأة وهل تشكل خطرا على حرية الفكر والإبداع مثلما حدث في قضية عادل إمام؟ - موضوع عادل إمام طغى على كل شيء في حين أن صعود الإسلاميين في حد ذاته يشكل خطرا على حرية الفكر وحرية المبدعين، هناك مبدعون مهمون ولكنهم أبعدوا عن الإعلام المسيطرة عليه الدولة، لم يتغير شيء فأنا حتى اليوم لا أستطيع أن أتحدث في التلفزيون المصري، وهؤلاء المتشددون ظهروا منذ أيام السادات عندما طغت التيارات الإسلامية والأصولية على الثقافة المصرية ولم تتعاف منهم، وأصبح المشائخ هم نجوم الإعلام، بدأ ذلك منذ تعاون السادات مع الأمريكان، وتم ضرب التيارات الناصرية والاشتراكية في مصر لمصلحة الأمريكان. * ولكن الإسلاميين هم الذين صنعوا الثورة أو على الأقل دافعوا عنها ودعموها حتى نجحت؟ - (إنتو بتهزروا)، الإسلاميون لم يشاركوا في ثورة (25) يناير إلا بعد أن نجحت، بالعكس هم تآمروا عليها وأعلنوا أنهم ضدها في بادئ الأمر، الإخوان والسلفيون قالوا إن الخروج على الحاكم ضد الشرع، بل الإخوان حاوروا عمر سليمان وقرروا ضرب ميدان التحرير، وعندما أصر الثوار على المواصلة ونجحت الثورة انضموا إليها وتزعموها واستغلوها لمصالحهم الشخصية دون أن تحقق أهدافها. * بالنسبة لوضع المرأة العربية في صراعها مع الرجل من أجل المساواة وهو محور كتاباتك في الغالب، هل تغيرت المعادلة عموما؟ - أبدا فالمرأة لا زالت مضطهدة ومحجورا عليها ولا توجد حرية فكر للمرأة، هناك محاولة لسلبها مكتسباتها الأخيرة، هناك زواج القاصرات، وبعض الآباء يبيعون بناتهم في سن (13 - 12) سنة إلى رجل عجوز، ولا يعاقبون على ذلك، مافيش رحمة، مافيش إنسانية ولا أخلاق وكمان عايزين يعملوا مشروع يمنع المرأة أن تخلع زوجها حتى ولو ضربها مع أن الخلع شرعي. * قلت إن الخلع شرعي فهل تعتمدين في حكمك على مرجعية دينية؟ - أبدا مرجعيتي ليست دينية، أنا أطالب بأن يكون التشريع مدنيا ولذلك أؤيد العلمانية وبفصل الدين عن الدولة، أنا بقول إنهم عايزين يمنعوا الخلع. * ماذا تعنين بتحرير المرأة؟ - أن تكون إنسانة كاملة الإنسانية، تشعر بمسؤولية تامة وكاملة إزاء نفسها أولا ثم المجتمع، وهذه هي خلاصة مشروعي للمرأة في العالم وليس في العالم العربي فقط. * انتشر الحجاب مؤخرا في الشارع المصري بشكل مذهل ألا يعد هذا انتصارا للتيار الإسلامي وللشريعة عموما؟ - أخلاق المرأة في سلوكها ومشيتها وكلامها وشكلها وليس غطاء شعرها. والحجاب في الأصل عادة جاهلية، في بلادنا هناك حاليا مزيج بين الأسلمة والأمركة، أي أن تغطي البنت شعرها وتعري بطنها، فترتدي البنطلون «الجينز» حسب الموضة الأمريكية والسوق الحرة والاستهلاك، وتغطي شعرها إرضاء للإخوان المسلمين. هذا هو نموذج المرأة والفتاة المصرية الآن. * من المرشحين الحاليين للرئاسة المصرية هل لفت أحدهم نظرك أو أثار إعجابك؟ - مفيش حد يعجب، كلهم فلول وانتهازيون يريدون القفز على السلطة و.. * (مقاطعة) عمرو موسى وهو مرشح ليبرالي يقترب من منهجك السياسي؟ - عمرو موسى أولا لا يعرف الديمقراطية وهو موش ليبرالي، هو لو حكم سيصبح مثل مبارك. * الدكتور البرادعي الذي انسحب من الانتخابات؟ - شوف البرادعي ليس له تاريخ نضالي في مصر، ولا تاريخ نضالي عالمي، وهو شخصية غير مقنعة، إذا كان يبحث عن موقف مشرف كان من الأول يقدم استقالته من الوكالة الذرية، هناك آخرون استقالوا. * الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح؟ - أبو الفتوح دا إخواني مرجعيته دينية. * ولكنه إخواني مستنير؟ - مستنير إيه. بقولك مرجعيته دينية. * وما المشكلة أن تكون مرجعيته دينية؟ - أنا ضد الدولة الدينية لأنها مثل إسرائيل فهي دولة دينية يهودية. * إذن لا يوجد شخص في نظرك يستحق أن يحكم مصر؟ - طيب وليه شخص؟ أنا لا أؤمن بحكم الفرد مطلقا وإنما أنادي بقيادة جماعية، نحن في حاجة إلى مجلس رئاسي جماعي وليس إلى مرشح واحد. * قبل سنوات تم استهدافك أنت وزوجك من قبل بعض المتطرفين الذين حاولوا التفريق بينكما بحجة أنك مرتدة عن الإسلام. ما الذي حدث بالضبط وكيف مرت الأزمة؟ - نعم حدث ذلك وهو أمر كان متوقعا بالنسبة لي، فقد تمتعنا بقدر كبير من الدعم، وكسبنا قضيتنا في المحاكم. أنا متفائلة على الدوام. حينما تكون نشطا، ومنهمكا في العمل، فإنك تنتصر أحيانا. لقد خسرت وظيفتي، وحاولوا تطليقي من زوجي وقتلي. لقد زجوا بي في السجن لكنني ما زلت أنتصر. ما زلت أعبر عن آرائي، وما زلت أكتب. * نعود بك من مصر إلى الخرطوم في إبحار ضد التيار، هل زرت السودان؟ - (تجيب بسرعة) آه زرت السودان عدة مرات. * وما رأيك في تجربة الإسلاميين في حكم السودان؟ - خطيرة بكل المقاييس، والأخطر من ذلك أن السودان وقع تحت السيطرة الأمريكية، ومن قبل السادات سمى نفسه الرئيس المؤمن، وفي السودان من قبل النميري أطلق على نفسه الإمام القائد (قالتها ضاحكة)، ليس هناك فرق بين بوش وبن لادن هم توأم، فالرجل الذي دعم القاعدة في أفغانستان هو بوش، والآن الإسلاميون والأمريكان يعملون معا في كل مكان، لا تصدقوا هذه الشعارات المرفوعة. * الإسلاميون الذين لا تثقين فيهم صنعوا المشروع الحضاري وأرادوا تصدير التجربة..؟ - (تقاطعنا) مشروع حضاري إيه؟ أنا ما شفتش مشروع حضاري في السودان، هل التقسيم حضاري؟ * ولكنهم أقاموا دولة للشريعة والإخوان في مصر أيضا يسعون إلى ذلك؟ - هؤلاء يريدون تدمير بلادنا تحت اسم الشريعة ومن ثم يبيعونها للأمريكان ولإسرائيل وللشيطان. * ما رأيك إذن في وضع المرأة بالسودان بالمقارنة مع أقطار أخرى؟ - وضعها متأخر جدا. * الترابي أطلق عددا من الاجتهادات أثارت جدلا متصلا بماذا تعلقين عليها؟ - ولكنها اجتهادات جزئية وشعائرية، يعني إيه المرأة تصبح إماما ولا لا؟