لا أدري لماذا أعاود قراءة رواية (451 فهرنهايت) بين الفينة والأخرى، بالرغم من أن ذلك ليس ديدني في الإطلاع على الروايات؛ إذ بمجرد الوصول إلى خاتمة أي نص روائي، أحتفظ بلحظة الدفء التي يمنحني أياها منذ اندغامي فيه.. دفء أن تعيش مع كائنات على كوكب (ورقي) يتراءى أمامك محتشداً بقامة (كلمات) ليصبح كل ذلك جزءاً من ذاكرتك. أعتقد أن إعادة القراءة في الغالب تمتص ذاك الدفء الأولي وتدخلك في (برودة الواقع) الذي تقابل فيه يومياً أقرباء لك أو أصدقاء أو مشاهد لأسواق وبنايات، لا تضيف شيئاً إلى ما رسخ في ذاكرتك منها. إن (القراءة) تشكل بالنسبة لي (دهشة) مثل (الصرخة الأولى لميلاد طفل)، ولكنني أشعر بضعف كبير أمام شهوة اطلاع ثانٍ وثالث لروايات لا تتجاوز في عددها أصابع اليد الواحدة، وخاصة مع التقدم في العمر، فتصبح إعادة القراءة لنص ما فارع، عودة إلى أيام صبا ويفاعة يسعى فيها المرء إلى (اكتشاف) ما حوله مرة أخرى. من بين تلك الروايات التي تحرضني على قراءتها مرات ومرات رواية (451 فهرنهايت)، ربما لأن عمرها الآن من عمري؛ إذ أصدرها كاتبها الأمريكي راي براد بري في عام 1950 أي منذ 60 عاماً، وكم تمنيت الآن، بالرغم من أن الذاكرة أصابها العطب، تمنيت أن أصبح مثل بطلها عامل الحريق الذي ينتمي إلى سلطة قابضة تتجول دورياتها في الأحياء لتضرم النار في (مكتبات) البيوت وتتحول فيها الكتب إلى رماد حينما تصل درجة احتراقها (451) على مقياس فهرنهايت، بيد أن ضمير البطل استيقظ وقاوم إحراق الكتب عندما اطلع على بعض الكتب، وأخذ يحتفظ بما ورد فيها في ذاكرته، ومن ثم هرب حيث الخلاء والقرى والأنهار مكتشفاً أن هناك هاربين مثله، خاصة من الأكاديميين حاملين في ذاكرتهم كتباً، أي تحولت الكتب إلى أشكال بشرية. في زمان الناس هذا، ونحن على فركة كعب من العقد الثاني من الألفية الثالثة، ينتابنا الشعور بأننا ندخل زمن الجهل القاتم، بالرغم من أننا في عصر المعلوماتية ومع ذلك تراكمت عوامل الهشاشة في مؤسساتنا التعليمية، حيث انصرف النشء، بل الكبار أيضاً، عن القراءة. لا تعليم جيد ولا ثقافة جادة، فماذا نتوقع سوى التخلف والجهل الذي يفرز التعسف والقسوة ورفض الآخر والإباحية، فما عاد التعليم حتى على مستوى جامعاتنا يشكل الوعي المعرفي؛ إذ فقدت هيبتها وقدرها العلمي، وأصبحت (تفقس) فقط (خريجين) معظمهم فاقدي بصيرة تنويرية. إن أي جهد تعليمي مرهون بآليات تفعيله على أرض الواقع الذي نعايشه. لقد انحسرت عادة القراءة، ولن ينهض وطن يعتمد على أسلوب التلقين لطلابه؛ إذ يطمس كل استنارة لتنطلق خفافيش الظلام من أوكارها. لقد قالها من قبل الإسرائيلي موشي ديان:(مادام العرب لا يقرأون فما من خطر حقيقي يهدد دولة إسرائيل) لذا فلا عجب أن تمارس الحكومات (التجهيل) حتى لا يخرج عليها من يشهر في وجهها سيف الوعي الثقافي والفكري. من هذا المنطلق ننصح الذين لديهم شغف (بالقراءة) أن يقرأوا الكتب على طريقة رواية (541 فهرنهايت) لأن الجنس البشري لن يقوده إلا الذين يعرفون كيف يقرأون على حد مقولة المفكر الفرنسي فولتير. كسلان دخل امتحان، وقع منه قلمه قام سلم الورقة!!