السودان خلال الأشهر القادمة مقبل على مرحلة الانتخابات، وهنالك مجموعة من الأحزاب السياسية وضعت البرنامج الانتخابي للحزب وطرحته في صفوف الجماهير للتبشير بهذه الرؤي والآراء وتطويرها وصياغتها بطريقة تناسب موقع وطبيعة عمل كل حزب. وغني عن القول إن هذا الخطاب لا يأتي من فراغ مثل ما نتابعه في البرامج الانتخابية في الدول المتقدمة، وهو (أي الخطاب) نتاج الواقع والمرحلة التي يعنيها، وربما في أحيان قليلة يستهدف شريحة أو فئة اجتماعية بعينها. عليه نجد أن تطوير الخطاب السياسي والإعلامي للحزب والبحث الدائم عن تطويره ناهيك عن وضع آليات ضمن العمل الحزبي من أجل المتابعة الدائمة والتطوير لهذا الخطاب وتغيير نمطه ولغته مع متغيرات الواقع. بالطبع هذه الملامح العامة لم تكن بمعزل عن الظرف الموضوعي والذاتي الذي كان يعيشه السودان على الصعيد العالمي وصعود دور الطبقات والفئات المنتجة في المجتمع السوداني، وانتشار التعليم للارتقاء الاجتماعي والاقتصادي، وتزايد المطالبة بالعدالة الاجتماعية، والاستقلال السياسي، وكره التبعية وتحرير الثروات الوطنية وغيرها، سبباً في تقبل هذا الخطاب. وعلى الصعيد الداخلي الأحزاب السودانية شهدت تطوراً واستوعبت فئات اجتماعية مثل الطلبة والنساء والمثقفين والمبدعين والأطباء والمهندسين والاقتصاديين والعمال وغيرهم من الفئات المنتجة، ومن حملة الشهادات العليا، مما ساهم بالارتقاء بنوعية الخطاب وإثرائه وجعله خطاباً جماهيرياً قادراً على حشد الناس حوله وتحويله (أي الخطاب) إلى فعل مؤثر في الشارع وبصورة واسعة، أي إن الخطاب كان مقبولاً للأسباب التالية: 1/ خطاب جديد على المجتمع، متفرد حيث لم تكن هناك أية قوة سياسية تحمل خطاباً مشابهاً، ومتجدداً باستمرار مع تجدد الظروف وتغيرها. 2/ صريح في نقده للأوضاع القائمة يسمِّى الأشياء بمسمَّياتها ويصل إلى حد التحريض في بعض الأحيان. 3/ دقة ولغة بسيطة، وإيصاله إلى جمهرة واسعة من الناس في الريف والمناطق التي تبعد عن المدينة، كان سبباً آخر في توسع انتشاره. يمكن القول إن الملامح العامة للخطاب السياسي والأسباب الموضوعية والذاتية التي ارتبطت به جعلته مقبولاً استمرت حتى فترة السبعينيات من القرن المنصرم. وارتباطاً بالحملة التي شنَّها المعارضون من مختلف الجهات لم يعد هناك خطاب سياسي متداول في الشارع (عدا خطاب السلطة) لمدة قاربت الربع قرن وما رافقها من إرهاب وحروب وحصار وانهيار للقيم الاجتماعية وللبنية التحتية وبدون الدخول في تفاصيل، يمكن تلخيص الظروف بما يلي: 1/ على الصعيد الدولي والإقليمي: انهيار المنظومة الاشتراكية وسيادة القطب والواحد وتراجع سحر وتأثير أفكار العدالة الاجتماعية والفكر الماركسي والخطاب اليساري عموماً. صعود الأفكار الدينية المتطرف وزيادة تأثير الخطاب الإسلامي. صعود أفكار الليبرالية الاقتصادية والتجارة الحرة وحرية الملكية وغيرها من الأفكار التي تدعو إلى الحرية في حقل الاقتصاد وما رافقه للأفكار الماركسية وزيادة تأثير هذا الخطاب على شريحة واسعة من الجماهير خاصة في صفوف الفئات الوسطى. تطور وسائل الاتصالات الحديثة وتنوع مصادر المعلومة وصعود المصدر المرئي على المسموع والمقروء، وانتشار الإنترنت مما ساعد على تلقي المعلومة بشكل أسرع وتصديقها بدون تدقيق أحياناً كثيرة، ناهيك عن تشابكها، وفي بعض الأحيان التناقض حول نفس لخبر مما يخلق عند المتلقي حالة من الشك وعدم اليقين. 2/ على الصعيد السوداني: تأثراً بالتغييرات الإقليمية والعالمية فإن الخطاب الطائفي كان له الصوت الأعلى، وما توفر له من إمكانيات مادية ولوجستية وكذلك من انتشار المساجد والحسينيات ومن الذين يجيدون لغة التخاطب مع الناس البسطاء. مع تعقد الحياة ومتطلباتها لم يعد الفرد العادي مهتماً بالقراءة وبالتفكير والمتابعة بل أخذ يفضل المعلومة السهلة ومن مصادر سهلة أيضاً (الفضائيات، الإنترنت) وحتى تصديق الإشاعة والكلام المتداول. كل هذا مقروناً بالنفور من العمل السياسي وعدم الثقة بالأحزاب وتعقد الأحوال الاقتصادية والاجتماعية وصعود الإرهاب وتدني الخدمات، جعل المواطن يفقد الأمل ويصعب عليه التمييز بين جهة وأخرى وخطابها وما تحمله من مشروع سياسي اقتصادي. على هذه الخلفية يجب أن تعمل الأحزاب في المرحلة القادمة على تكريس روح الوطنية والاهتمام بالمواطن البسيط والبحث عن القواسم المشتركة التي تدعو إلى إنهاء الحروبات القبلية ومراعاة مصلحة المواطن والوطنية؛ ففي سوق الخطابات السياسة وزيادة عدد المطروح من برامج وخطابات تصبح المهمة أشق وأصعب من أجل الإتيان بشيء جديد و(مغرٍ أن صح التعبير) للمتلقي. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تدني مستوى الوعي من حيث استجابته للخطاب القوي والصريح وطبيعته العاطفية تجعله لا يتلقى خطاباً واعياً يدعو إلى التفكير والعمل والرؤية العميقة. إن البحث عن وسائل مبتكرة ولغة جديدة وأساليب متميزة لصياغة الخطاب السياسي وضمان إيصاله إلى أوسع شريحة من الجماهير يقع في أولويات أي حزب سياسي، خاصة في ظل ظروف متغيرة وشائكة، وفي التحضير المستمر للانتخابات. إن الخطاب السياسي هو الواجهة الرئيسية والنافذة التي يطل منها المتلقي على الحزب ونشاطه والرافعة الأساسية لعمل المنظمات الحزبية. إن الهدف الأخير هو أن يمتلك الخطاب الحزبي التجدد من أجل تمييز أنفسنا عن الآخرين وبوضوح وذلك باختيار الموضوعية التي تميزنا عن الآخرين وتجديد الخطاب من حيث المحتوى واللغة ليجاري تغير الأحداث وليمس القضايا المتشعبة والمتنوعة. البساطة في التعبير: لجعله مفهوماً ومختصراً وسهل التقبل من قبل الآخرين، واستخدام اللغة والمفردات التي تحرك الناس وتقرب مشروعنا منهم. واضح الهدف والمعالم: أن يستهدف القضايا المعنية بوضوح وبلا غموض، ويسمِّى الأمور بمسمياتها، ويصيغ الاستنتاجات بطريقة واضحة لا لبس فيها ولا تتطلب من المتلقي العادي الاستنتاج والقراءة بين السطور (فيجب ألا نذكر الأبيض ونترك للمتلقي استنتاج الأسود بل يجب أن نذكر الأسود أيضاً)، على سبيل المثال. النقد الصريح: النقد الواضح وكشف الحقائق مسنودة بالأدلة والأرقام، إن أمكن، مقروناً بالنقاط أعلاه يعطي حيوية للخطاب ويجعل ملامحه وأهدافه واضحة. ولأجل تحقيق النقاط أعلاه وتطوير خطابنا السياسي أرى ضرورة وجود الآليات أدناه في العمل الحزبي اليومي لكافة المنظمات القيادية للأحزاب مثل: متابعة ومراقبة الخطاب السياسي للقوى الأخرى وتغييراته ونقاط قوته وضعفه وعدم الوقوع في فخ التكرار. الظهور في وسائل الإعلام المختلفة في التلفزيون وخاصة من وجوه الحزب المعروفة لأجل إيصال رسالة الحزب والتركيز على القضايا الساخنة واعتماد النقاط أعلاه في هذه الأحاديث واللقاءات. التنسيق مع العاملين في القنوات الفضائية والمراسلين وتكوين علاقات تسمح لفعاليات وخطاب الحزب في الظهور في هذه الوسائل. --------- أستاذ جامعي/ قسم الإعلام والعلاقات العامة جامعة السودان