٭ من مفارقات هذه المهنة التي لا تعرف التوقُّف، ولا تعترف بالتثاؤب، عندما يذهب الآخرون في عطلة السبت، تتضاعف في المقابل مهامنا، فغير (الأهرام) نعكف يوم السبت على إصدار الجريدة الولائية . (النيل اليوم) التي تستهدف بصورة أساسية مواطن نهر النيل وقضاياه، هكذا تأتينا يوم سبتنا صحفنا شرُّعاً، ولا تمنحها عطلة السبت شيئاً غير كسر حدة الازدحام في طرقات ولاية الستة ملايين مواطن و.. و.. ٭ فبينما كنت أسير غافلاً في رحلة العودة إلى (المضارب الشرقية) هكذا نغدو خماصاً ونروح خماصاً، وما أن وضعت ضاحية كوبر بأعباء جسرها وسجنها وراء ظهري متوجهاً تلقاء حلة كوكو وما أدراك ما حلة كوكو، وبالقرب من حي السفارات الذي يقيم فيه (رجل الكورة والثروة والغناء) الأرباب صلاح إدريس، حتى رأيت أحد المواطنين وهو يلح عليّ بالتوقُّف، توقفت وأخذته معي، رجل يبدو في أوائل عمر النبوّة ، يرتدي بنطالاً وقميصاً وطاقية ويحمل ملفاً بين يديه، يمسك جيداً بهذا الملف ، قال لي مباشرة وبدون تقدمة ، أنا قادم من مستشفى أحمد قاسم ، وأن لي ابنة تتعالج بهذا المستشفى من مرض الفشل الكُلوي، ونحن باستمرار في حالة شراء للأدوية والعقاقير الطبية. نظرت إليه دون أن أنطق بأية كلمة، فهو لازال يمسك جيداً بالفائل ، لكنه ربما فسّر (سُكاتي) هذا تجاوباً فذهب إلى قصة أخرى، قال في فترة بقائي في المستشفى تركت أولادي بالمنزل بدون أية مصروفات، وعلمت أنهم لا يذهبون إلى المدرسة ، وأن (ام الاولاد) قد توفيت منذ سنوات بعد سلسلة من الأمراض، عاودت نظرتي إليه فهو لايزال ممسك بملفه وبكلتا يديه، وبدأ لي أنه يفسِّر نظراتي تلك،كما لو أنها (إذن مرور) للدخول في حكاية أخرى، وبالفعل شرع في سرد حكاية أخرى، قال الرجل: إنه لا يملك (حق المواصلات) لهذا فإنه وصل إلى هذه المنطقة مشياً على الأقدام من مستشفى أحمد قاسم ، وأن سائقي الحافلات رفضوا التجاوب معه، فلّما انتهى من سرد الحكاية الأخيرة (حكاية الحافلات) كنا على مدخل حلة كوكو ، فللرجل مقدرة مدهشة في توصيف أحواله، قصص مُتقنة ومحبوكة بعناية فائقة ، لكن فات عليه أن تعدُّد هذه القصص يفسدها، فقصة واحدة تكفي لتتعاطف معه، لم يساورني أدنى شك في أن صاحبي محترف كبير! لم أملك إلا أن استجمع كل إرادتي في جملة واحدة فدفعت بها إليه، قلت له بشيء من اللوم ، فبعض السيناريوهات تضطرك إلى أن تخرج أحياناً من سياقك ، قلت (ياخوي انت ماشي وين)! عبارة أحبطت كل مخططات الرجل، قال لي (نزلني هنا)، فقد انهارت كل أشواق الرجل الذي لم يعرف في هذه المرة أن يختار ضحيته بعناية أو ربما تعرّف على الضحية ولكنه لم ينجح في معرفة مفاتيح الدخول إليها. ٭ منذ فترة قليلة كنا نشهد (ورشة تفاكرية) عن قضايا المتسوِّلين بولاية الخرطوم، حيث أكدت الوزيرة أميرة الفاضل وزيرة الشؤون الإجتماعية أن بولايتها ثمانمائة من المتسوِّلين المحترفين. لكن السيد الوالي الخضر نبّه الحضور إلى متسوِّلين من نوع آخر ، المتسولون لدى بلاط الولاة والوزراء ، الذين يحملون الملفات لأجل (خدمات التصديقات) ويترددون على أبواب السلاطين، قال السيد الوالي إنه قد خصّص مكتباً لهذه الشريحة مهمته الأساسية النظر والتحري في مثل هذه الطلبات وبالتأكيد هنالك أُناس صادقون ، لكن قليل ماهم. ٭ رأيت أن ألفت نظر ولاية الخرطوم لهذه الشريحة الجديدة التي يمثلها صاحبي هذا ، على أن تُدرج ضمن قائمة شرائح المتسولين والمشردين ، وعلى أن القارئ الكريم يمكن أيضاً أن يستفيد من هذه الواقعة ، فليس كل قصة مسبوكة متقنة، لدرجة تسيل لها الدموع- ليس بالضرورة أنها قصة واقعية ، فالتعاطي مع هذه الشريحة والإستجابة لطلباتها كما لو أنه تقنين واعتراف بها.. والله أعلم.