كلية الارباع لمهارات كرة القدم تنظم مهرجانا تودع فيه لاعب تقي الاسبق عثمان امبده    بيان من لجنة الانتخابات بنادي المريخ    بيان من الجالية السودانية بأيرلندا    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    شاهد بالفيديو.. السيدة المصرية التي عانقت جارتها السودانية لحظة وداعها تنهار بالبكاء بعد فراقها وتصرح: (السودانيين ناس بتوع دين وعوضتني فقد أمي وسوف أسافر الخرطوم وألحق بها قريباً)    شاهد بالصورة.. بعد أن أعلنت في وقت سابق رفضها فكرة الزواج والإرتباط بأي رجل.. الناشطة السودانية وئام شوقي تفاجئ الجميع وتحتفل بخطبتها    البرهان : لن نضع السلاح إلا باستئصال التمرد والعدوان الغاشم    وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغرب يفتش عن إنسانيته في الدين!!
نشر في الأهرام اليوم يوم 06 - 03 - 2010

مر العقل الغربي عبر تاريخه الممتد بمراحل عدة، انتقل خلالها بين توجهات وأيديولوجيات متباينة، فمن حقبة الهيمنة الكنسية في «العصور المظلمة»، إلى التنوير الذي استبدل الدين بفلسفات وأفكار «فولتير» و»جان جاك روسو»، ثم «إيمانويل كانط»، و»فرانسيس بيكون»؛ حيث حلت العقلنة محل الثيولوجيا (الدين) مع بزوغ فجر العلمانية، ثم تعمق هذا التوجه إلى نزعة أكبر نحو التحررية في المرحلة الحداثية الإلحادية في بدايات القرن التاسع عشر عبر الفلسفات المادية كالليبرالية والوجودية، ثم الشيوعية والإمبريقية، تلك المرحلة التي شهدت تأليه المادة، والتمييز بين البشر، وما أدت إليه من حروب كبرى.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين عادت أطروحة الدين لتلح بقوة على الفكر البشري كمرحلة جديدة قديمة تتلمس فيها البشرية الخروج من دائرة الشقاء التي جلبتها عليها المذاهب العقلية والمادية.
ولكن كيف يناقش الدين في الغرب اليوم؟ وما هي الدوافع التي أعادت هذه الأطروحة إلى السطح؟ وما هي البوابات التي يريد الفكر الغربي ولوج الحيز الديني من خلالها؟ وما طبيعة العقبات التي تواجه الدين في الثقافة الغربية؟ وهل ثمة تصادم بين الدين والمشروع الحضاري الغربي بكل أبعاده؟
نجيب على هذه التساؤلات عبر دراسة للكاتب والمفكر «ديف براون» الوزير المشيخي بكنيسة إمانويل المشيخية بواشنطن، والذي أسهم بالعديد من الأعمال فيما يتعلق بقضايا الدين في المجتمعات المعاصرة.
تزايد المد الروحاني
في البداية ركزت دراسة «براون» على ما أشار إليه «مارتن مارتي»- أستاذ تاريخ الأديان بجامعة شيكاغو، وأحد أبرز مفسري الديانات والثقافات في العالم اليوم، حيث تزيد مؤلفاته في هذا الباب عن الخمسين كتابا- من أن «اصطلاح الروحانية لم يظهر على مدى النصف الثاني من القرن العشرين في مرشد القارئ للكتب والدوريات، إلى أن جاء مطلع هذا القرن ليمثل ظهورا كثيفا لهذه الكلمة».
ويضيف «مارتي» أن «زيارة واحدة لأي دار نشر كبيرة، أو موقع أمازون (أحد أشهر مواقع بيع الكتب على الإنترنت) تدلل على الأهمية التي تحظى بها الروحانية الآن».
هذا الزخم الروحاني سوف يستمر ويزيد خلال الأيام القادمة طبقا لتوقعات الدراسة التي بين أيدينا؛ لأن الناس لا يزالون يبحثون عن مخرج من هذا التيه، والوصول إلى معنى للحياة؛ فالروحانية كما يعرفها «ديف براون»: هي الشبكة التي تجمع في طياتها شتات الحياة البشرية وتربطها بشيء أكبر وأوسع منها؛ فهي إذن لا تعطي الحياة المعنى الخارجي فقط، ولكن التماسك الداخلي أيضا، وهي تربط بين عالم اعتقادي كبير غير منظور، وعالم الممارسة العملية التي ينخرط فيها الإنسان بمكوناته المادية.
وإذا كانت بواكير عصر النهضة قد شهدت ما يعرف بالربوبيين، أو أتباع المذهب الرباني الذي يؤمن بوجود إله، وينفي وجود الدين، فإن الروحانية الحديثة لا تتصادم مع فكرة الدين؛ فالإحصاءات المسحية تؤكد أن حوالي 60% من الشعب الأمريكي -مثلا- دينيون وروحانيون في آن واحد.
وتتوقع الدراسة أن تحمل التوجهات المستقبلية في الواقع الغربي «جوعة» أكبر نحو الروحانية للخروج من ربقة المادة، وخلق آصرة وثيقة مع عالم أكبر من العالم المشهود، فإذا كانت الأفكار بشأن «الله» والدين تتغير، فإن الحاجة إلى التماسك الداخلي، ووضع هدف أكبر للحياة هي من الثوابت في الطبيعة البشرية؛ ومن ثم فإن طبيعة المشكلات التي يحفل بها هذا الواقع تؤكد على سعي أكثر حثيثية نحو الروحانية يبلغ ذروته على مدى العشرين سنة القادمة.
جدير بالذكر أن ما يعرف ب «جيل الطفرةBaby Boom Generation « -وهو الجيل الذي خرج للحياة مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي يمثل حالة تقف بذاتها في المجتمعات الغربية قاطبة، بما عرف عنه بأنه أكثر تمردا ضد الكلاسيكيات الدينية والثقافية، وأنه أكثر وعيا وتوقدا، إضافة إلى ما يتمتع به من نصيب أوفر من غيره على مستوى الثراء المادي والصحي والعمري- يبدأ الآن ولوج مرحلة التقاعد، أو مرحلة التأمل، بحسب اصطلاحات علم النفس؛ مما سيكون له أبلغ الأثر على الخطاب الروحاني التأملي في الغرب.
كما شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أكثر من غيره سعي المؤسسات الاقتصادية نحو تعميق النزعة الروحانية التماسكية لدى منسوبيها، وعقدت في سبيل ذلك العديد من البرامج والدورات، بل يمضي «براون» أبعد من ذلك لينسب جل الفضل في نجاح مؤسسات اقتصادية بعينها إلى سعيها الدءوب لخلق ما عبرت عنه الدراسة ب»المكان الثالث»، غير «العمل» و»المنزل»، لتطوير شبكة من «العلاقات والأواصر ذات النزوع الإنساني»؛ ويتم التسويق لهذه التجربة في العديد من المؤسسات بعد أن أثبتت نجاحات فائقة.
التعددية الدينية
تؤكد الدراسة منذ مقدمتها على تزايد المد الديني في المجتمعات الغربية بوجه عام بمذاهبه وأيديولوجياته المختلفة حتى أضحى الدين «ورقة انتخابية رابحة» للأحزاب والتكتلات السياسية على اختلاف توجهاتها، وصارت المؤسسات الدينية في الغرب قبلة تولي الأنظمة والإدارات الحاكمة في أوروبا وأمريكا على السواء وجوهها شطرها لمواجهة الاحتياجات والتحديات المجتمعية.
وتأتى التعدديات الدينية والإثنية والثقافية على رأس هذه التحديات، وفي هذا السياق يؤكد «براون» أن حجم تعدديات الطوائف الدينية «سيشهد تزايدا ملحوظا خلال النصف الأول من القرن الحالي»، كما تؤكد «ديانا إك» -أستاذة الدين المقارن بجامعة هارفارد- أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أصبحت مع مطلع هذا القرن «الأمة الأكثر تعددية في العالم».
ويعد هذا المد التعددي المتصاعد في النصف الغربي من العالم امتدادا لموجتي الهجرة الكبرى من الشرق الآسيوي، والمشرق العربي بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث فتحت أوروبا وأمريكا ذراعيهما لموجات المهاجرين كعمال في المصانع بعد انجلاء الحقبة الإمبريالية، ثم تحول هؤلاء العمال -بفعل تغيرات وعوامل متشابكة لا يتسع المجال لبسطها- إلى مكون أساسي في الوطن، وتفاعل هذا «الوطن مع هؤلاء «المواطنين» الجدد عبر مجموعة من الدساتير والبرامج لاستيعابهم، إما عن طريق إدماجهم في فضاء الوطن القومي، أو باعتبارهم «آخر» تتسع له أدبيات الديمقراطية الليبرالية.
وتؤكد الدراسة تحول الإسلام والهندوسية والسيخية وغيرها من ديانات عالمية إلى ديانات غربية؛ حيث تفوق أعداد المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية -مثلا- أعداد «الجالية اليهودية والأساقفة الكنائسيين وأتباع الكنيسة المشيخية»، وغيرهم من التيارات الدينية السيادية، حتى إن مكتب البريد الأمريكي قد أصدر مؤخرا طابعا بريديا احتفاليا بهلال شهر رمضان على غرار طوابع أعياد «الكريسماس» المسيحية و»الهنوكة» اليهودية؛ مما يعني انتشار رموز هذه الأديان باعتبارها رافدا من روافد النهر الثقافي التعددي في زمن العولمة.
وتشكل هذه التعددية تحديا مستقبليا في الغرب بآثارها البعيدة المدى في مجالات الحياة المختلفة، ويمكن إجمال الآثار المختلفة التي سردتها الدراسة في محورين أساسيين:
1 - كيفية تجاوب سوق العمل مع القوة العاملة ذات الخلفيات الدينية المتباينة، أو بعبارة أخرى طريقة سير دولاب العمل في المؤسسات الاقتصادية الحكومية والمدنية مع المتطلبات الدينية التي تقتحم ميدان العمل كالصيام، أو الصلاة في أوقات بعينها، أو الالتزام بزي معين.
2 - كيفية تجاوب الفكر التربوي مع الممارسات والمتطلبات الدينية في إطار التعددية، أي منهجية المؤسسات التربوية في مواجهة الممارسات الدينية المتعددة داخل المنظومة العلمانية التي تقوم عليها هذه المؤسسات؛ فالطلاب السيخ مثلا يرتدون سكينا «طقوسيا» عند بلوغهم سن الرشد؛ الأمر الذي يتعارض مع سياسات منع الأسلحة في المدارس!
جدير بالذكر أن الدراسة قد أشارت تصريحا تارة وتلميحا تارات إلى «أزمة الرموز» التي بدأت تطفو على السطح في العديد من المجتمعات كأحد التحديات المستقبلية في المجتمعات الغربية، إلا أنها وضعت السياسات الغربية التعددية كلها في سلة واحدة، ولم تشر ولو من بعيد إلى وجود منهجيتين بينهما كل التناقض في التعامل مع الآخر؛ حيث تسعى بعض الدول، وفي مقدمتها فرنسا، إلى استيعاب هذا الآخر في فضاء الوطن القومي العلماني، وتحويل الدين من المساحة العامة في المجتمع إلى الحدود الشخصانية، بينما تتعامل دول أخرى، وعلى رأسها بريطانيا، مع هذا الآخر باعتباره حالة قائمة بذاتها ورافدا متميزا في المجتمع عبر القواعد الديمقراطية السائدة في هذه النظم.
الأصوليات الدينية
ظهرت التيارات الراديكالية، والفكر المحافظ في أدبيات الجاليات الدينية كأحد تجليات التعددية في المجتمعات الغربية، وتشير «كارين أرمسترونج»، الراهبة السابقة والباحثة الإنجليزية الأكثر شهرة في مقارنة الأديان، في هذا السياق إلى تاريخية هذه الظاهرة؛ فالطوائف المختلفة في الثقافات التعددية تميل دائما إلى اعتناق مقاربات أصولية كميكانزم دفاعي عن الهوية الحضارية، فالحقائق الأصولية هي الأيديولوجية المعتمدة في فورة الزخم التعددي من أجل التمايز، إن لم يكن من أجل البقاء.
ولا شك أن تأثير الظاهرة الأصولية على الواقع المجتمعي برمته سيمتد إلى عقود؛ فالعديد من المجتمعات الغربية تعتبر نفسها مجتمعات مسيحية دينا وفكرا، أو حتى مسيحية دينا وعلمانية فكرا، وأن تصاعد المد التعددي الديني قد أصبح شوكة في حلق هؤلاء الذين اطمأنت قلوبهم لزمن ليس بالقصير على اعتبار المسيحية المكون الأوحد، أو الرئيسي، في أقل التقديرات، الذي له أن يضطلع بمسئولية صياغة ثقافة المجتمع وسمته العام ولو في إطار عام علماني لدى بعض الدول.
ولأن الظاهرة الأصولية الراديكالية قد أضحت أحد الظواهر التي لا يمكن تجاهلها في الثقافة التعددية، فقد تم تطوير إستراتيجيات جديدة على مدى الأعوام الفائتة لمواجهة هذا التحدي، ولكن لا يزال هناك الكثير ينتظر دوائر صناعة القرار ومؤسسات الفكر على السواء في الغرب للتعاطي مع حالات الاحتقان والعنف التي لازمت، ولا تزال، الأدبيات الأصولية والحركات الراديكالية.
المقاربة العلمية / الدينية
يؤكد العديد من المفكرين أن التقدم العلمي المذهل الذي شهدته البشرية قد أثار العديد من علامات الاستفهام التي عجز العلم نفسه عن تقديم إجابات لها، وورد العقل البشري موارد التيه والحيرة إزاء بعض القضايا الأخلاقية، بل والفكرية الفلسفية المتعلقة بأصل الوجود، ومركزية الإنسان فيه!
فالبحث العلمي المطرد يلقي بظلاله ليطرح العديد من التساؤلات في مجال الأخلاق التي لن يقف تأثيرها على الحياة الدينية للإنسان في الغرب فحسب، بل سيمتد هذا التأثير ليضغط في طريقه على المؤسسات التي تصيغ المساحة الدينية في الحياة الغربية بوجه عام.
ويتساءل الكاتب عن الظلال الكثيفة التي ستغشى الواقع البشري في مفهومه للعدالة والأخلاق، بل وفي مفهومه للإنسانية بوجه عام مع السجال العلمي الذي وقع قبل سنوات ليست بكثيرة في مجال التكنولوجيا البيولوجية بشأن معالجة القانون الجيني، والخلية الوراثية؛ الأمر الذي من شأنه أن يغير وجه الحياة البشرية على الصعيد العلمي!
فهل ثمة «قوانين أخلاقية أو تشريع إنساني يؤطر لهذا التوجه العلمي الجامح؟» وأين تتماس حدود الألوهية أو «كل ما هو سام ورفيع» مع حدود السجالات العلمية المتجددة بشكل مطرد؟ إن هذا الشأن المتجدد يثير معه قضايا تضع الثوابت الإنسانية على المحك لو لم تتوافر أطروحات لا تقوم على الإقصاء المضاد بقدر ما تقوم على الاستيعاب والإثراء المتبادل.
ولكن هل تمتلك المؤسسات الدينية -والتي تعكس التنوعية الدينية بحجمها الهائل كسمة أساسية من سمات المجتمعات الحداثية- من الأدوات ما يمكنها من تقديم إجابات على مثل هذه الأسئلة، أو أن الفكر الغربي أصبح بحاجة إلى بناء مؤسساته الأخلاقية / الفلسفية على أطر جديدة يستطيع من خلالها «الثابت» استيعاب «المتغير»؟
وإذا كانت مباحث الخلية الوراثية، والتي تعمقت مع بواكير هذا القرن، بصدد التأسيس لمرحلة داروينية جديدة أكثر تعقيدا، فمن -يتساءل براون- سيلعب في هذه المرحلة دور «الإله»؟
وتخلص الدراسة بعد استعراض لآراء مجموعة من المفكرين في العالم إلى عدد من المنطلقات يمكن إجمالها في النقاط الثلاثة التالية:
1 - لا توجد مؤسسة أو دولة واحدة يمكن أن تكون محل ثقة لتلعب دور المرشد الأخلاقي لأبحاث التكنولوجيا البيولوجية ودراسات الفضاء والكيمياء العضوية والفيزياء النووية، إلى غير ذلك من المباحث في مجالات العلم المختلفة لتحقيق التكامل الأخلاقي العلمي من أجل تقدم أكثر إنسانية.
2 - ضرورة الاستمرار -بالرغم من عدم الوصول إلى المعادلة الأدبية للتكاملية الأخلاقية العلمية- في البحث العلمي.
3 - معالجة بعض قضايا العلم، كقضايا الجين الوراثي والاستنساخ التي ذكرناها آنفا، هي من قبيل العمل الخطر الذي لم تقف البشرية بعد على التأطير له والتعامل معه عبر أدبيات تكاملية بين الدين والعلم.
إن هذه الأطروحات وغيرها سوف يكون لها أبلغ الأثر على المؤسسات الدينية والتربوية وفي مستقبل البشرية بوجه عام؛ لأنها -بعبارة واحدة- تعني انتقال دور الإله مرة ثانية إلى العلم؛ الأمر الذي يشكل تحديا فجا للدين الغربي بجميع مذاهبه!
فالسطوة العلمية التي لم تخضع بعد لأطر وأدبيات دينية أخلاقية تمثل إشكالية علمية / دينية في بدايات هذا القرن أكثر مما شكلته في بدايات القرن المنصرم؛ حيث إن ركنا ركينا من إنسانية الإنسان تكمن في تموضعه كجزء من سر كبير مقدس، وفصل في قصة دينية أسطورية ممتدة، والميراث المسيحي واليهودي والإسلامي جميعا يحوي الكثير من الحديث عن بشر صنعهم أو صورهم «الله في خياله»، وإشكالية انتقال دور الإله سيصل مداه إلى تفاصيل الحياة عندما تضيع قوانين الأخلاق تحت ركام ارتباك الشخصية الإلهية!
إن تحديا كهذا لا يقل خطورة بحال عن تحديات التعددية والأصولية وغيرها، وإن بدا حوارا فوقيا لا يمس الواقع الحياتي للمجتمع بشكل مباشر.
إن التجربة الغربية الآنية تتشابه في ظاهرها الخارجي مع التجربة الغربية التاريخية يوم فشل الدين في استيعاب الحياة، وتعامل الفكر الغربي حينها مع الدين عبر أدبيات إقصائية بدأت بتقسيم الحياة بين الله وقيصر، وإقصاء الدين عن الفضاء العام، وحصره في نطاقات ضيقة عبر التنظيرات العلمانية، ثم أخذ هذا الفكر خطوة أبعد بلغت أوجها عندما أعلن الفيلسوف والأديب الألماني «فريدريك نيتشه» موت الإله في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فأقصى الدين عن الحياة كلها جملة واحدة، ودان العقل الغربي للفكر الإلحادي.
واليوم يستدير الزمان كهيئته يوم واجهت أوروبا مشكلات الصراع بين الثابت والمتغير، فأقصت الأول لحساب الثاني؛ لتعتمد في هذه المرحلة مقاربة مغايرة.. مقاربة تربط بين السماء والأرض، وتجد في الثابت من الانفتاحية والقدرة على التطور ما يمكنه استيعاب المتغير، لتمثل بذلك لنضوج التجربة الفكرية واستيعاب موعظة التاريخ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.