أكثر التعابير ضبطاً وإحكاماً هي تعابير القانون، ولعل أكثر اللغات سعة وأريحية في التعبير عن المعاني هي اللغة العربية؛ فالمفردة لا تتسع لمعنى وآخر فحسب بل للمعنى وضده في ما يعرف في بعض فروع البلاغة ب(الأضداد)، فالبصير في اللغة هو (ذو الباصرة) وهو فاقدها أيضاً، كذلك (السليم) هو (السليم) وهو (اللديغ)، ومفردات كثيرة تعني الشيء وضده لا مجال هنا لإحصائها.. ويقابل التعبير القانوني في ضفة أخرى التعبير الشعري الذي تُستباح فيه حدود المفردات والمعاني. وانضباط التعبير القانوني يوجب الحذر في انتقاء المفردة بحيث لا تعني إلا معنًى واحداً لا غيره، ولا تقصد إلا مقصداً واحداً لا يلتبس به سواه. وليست المفردة وحدها محط النظر هنا، بل التركيب اللغوي للجملة وأنواع التصاريف وزمن الفعل العربي الذي تحتمل صيغة ماضيه مضارعه، وصيغة مضارعه ماضيه. لأجل ذلك عنى الفرع في علم اللغة الحديث باللغة الدبلوماسية ولغة الاتفاقات والعقود والصياغة القانونية على وجه العموم. ولعل القارئ يذكر ما صنعته مفردة واحدة ضمن بنود اتفاق بين الشقيقتين قطر والبحرين سنوات خلت، ولعله يذكر أيضاً مناسبات ضللت فيها الترجمة من لغة إلى أخرى عن قصد أو غير قصد المعاني وأربكت أطراف النزاع لغموض كلمة أو هيئة تركيب لغوي أو تلبيس سياقات حول المعاني. وما فعلته كلمة (قد) الواردة في القانون الصادر عن مفوضية الانتخابات يقع استواءً في هذا الإطار، وسمعنا سعادة الفريق الهادي محمد أحمد رئيس اللجنة الفنية يدفع احتجاجاً لأحزاب المعارضة حول حجب دعمها المالي بقوله: (إن البند أو المادة لا توجب الدعم بل إنها تنص على كلمة «قد» تقوم الجهة المعنية بالدعم) «قد» فما معنى «قد» لغوياً؟ وما معناها قانوناً؟ لندرك مبلغ الالتباس الذي أحدثه من قام بصياغة هذه المادة، ولغة القانون لا نجادل فيها الفريق الهادي وقد عملت معهم بالشرطة برهة وجيزة وأعرف قدراته المهنية وذكاءه ووافر علمه كما يعرفه غيري ممن لهم إلمام أو متابعة بالشخصيات الشرطية المتميزة، وأبادر بالسؤال (هل كلمة قد) كلمة قانونية في الأصل؟ وهل يجوز أن تضمّن أيّة مادة قانونية أو أي نص قانون هذه الكلمة الفارطة الاتساع لأجواء الاحتمالات والإمكان وعدمه. يقول أهل اللغة: «قد» حرف إن دخلت على الماضي أفادت تحقيق معناه، وإن دخلت على المضارع أفادت تقليل نوعه، وقد تكون اسم فعل في قولك «قد زيداً درهم» أي «يكفي» وقد تكون أيضاً اسماً مرادفاً ل«حسب» وتستعمل مبنية ومعربة كما يقولون لمعانٍ تختلف. وسؤالي مباشرة للجنة الصياغة القانونية في مفوضية الانتخابات هل لفظة بهذه الصفة الفارطة الاتساع والمعاني يجوز أن تتصدر مادة في نص قانوني محكم؟ والذاكرة تعيدنا إلى موقف قانوني لغوي طريف لمولانا المغفور له الشيخ علي عبد الرحمن القاضي الشرعي وأحد أركان حزب الشعب الديمقراطي حيث صرح بعض منسوبي الحزب بما اشتمل على لفظة (بالقوة) ومعناها القريب غير محتاج لوقفة، لكن دفع مولانا شيخ علي عبد الرحمن في دفاعه عن عضو الحزب أن كلمة (قوة) لا صلة لها هنا بالعنف، فيا ترى حين تقرأ الآية الكريمة (يا يحيى خُذِ الكتابَ بقوة) هل هي العنف والصخب؟ وكان الموضوع في الحقيقة موضوع (سياقات) لكن القانون في مثل تلك الحالة... يعني! وعلى أي حال يرجى من مفوضية الانتخابات (في الانتخابات القادمة) وما بعدها مراعاة دقة اللغة وإحكام الصياغة وتمرير القانون بعد صياغته على أهل اللغة وأصحاب المعاني. ويا ربي هل تدرّس أطراف من علم اللغة في كليات القانون، بخاصة وقد تجاوز علم اللغة حالات الرفع والجر والنصب وخلافات البصرة والكوفة وأبواب (لاسيما تفاحة على الريق) إلى آفاق أخرى عجيبة.. ذلك مع تحياتي خاصة للفريق الهادي الذي لم أقصده شخصياً بهذا التعليق الخاطف عن كليمة صغيرة في حجم (قد) على أن معظم النار من مستصغر الشرر، كهذه الشرارة الصغيرة (قد) المستحقة عن جدارة أن تكون الشقيقة الصغرى لكلمة (لو) الشهيرة.