ترامب: الهجوم على قطر قرار نتنياهو ولن يتكرر مجددا    إتحاد الدامر يحدد موعد قرعة الدوري المحلي    جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث الغارات الإسرائيلية على الدوحة    في الجزيرة نزرع أسفنا    منتخبنا الوطني يضيع النقاط والصدارة .. والحلم !    اعتقال إعلامي في السودان    السودان..تصريحات قويّة ل"العطا"    نوتنغهام يقيل المدرب الذي أعاده للواجهة    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني تستعرض جمالها بإرتداء الثوب أمام الجميع وترد على المعلقين: (شكرا لكل من مروا من هنا كالنسمة في عز الصيف اما ناس الغيرة و الروح الشريرة اتخارجوا من هنا)    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    شاهد بالصور.. القوات المسلحة تتمدد والمليشيا تتقهقر.. خريطة تظهر سيطرة الجيش والقوات المساندة له على ربوع أرض الوطن والدعم السريع يتمركز في رقعة صغيرة بدارفور    شاهد بالصور.. مودل وعارضة أزياء سودانية حسناء تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة من "العين السخنة"    شاهد بالصور والفيديو.. شاب سوداني يشعل مواقع التواصل الاجتماعي ببلاده بزواجه من حسناء تونسية وساخرون: (لقد فعلها وخان بنات وطنه)    شاهد بالصور.. القوات المسلحة تتمدد والمليشيا تتقهقر.. خريطة تظهر سيطرة الجيش والقوات المساندة له على ربوع أرض الوطن والدعم السريع يتمركز في رقعة صغيرة بدارفور    شاهد بالصور والفيديو.. شاب سوداني يشعل مواقع التواصل الاجتماعي ببلاده بزواجه من حسناء تونسية وساخرون: (لقد فعلها وخان بنات وطنه)    شاهد بالفيديو.. أطربت جمهور الزعيم.. السلطانة هدى عربي تغني للمريخ وتتغزل في موسيقار خط وسطه (يا يمة شوفوا حالي مريخابي سر بالي)    شاهد بالصورة.. محترف الهلال يعود لمعسكر فريقه ويعتذر لجماهير النادي: (لم يكن لدي أي نية لإيذاء المشجعين وأدرك أيضا أن بعض سلوكي لم يكن الأنسب)    أمير قطر لترامب: سنتخذ الإجراءات كافة لحماية أمننا وسيادة بلادنا    والي الخرطوم يدين الاستهداف المتكرر للمليشيا على المرافق الخدمية مما يفاقم من معآناة المواطن    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    "تأسيس" تهنئ إثيوبيا بإفتتاح سد النهضة    بث مباشر لمباراة السودان وتوغو في تصفيات كأس العالم    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    هذا الهجوم خرق كل قواعد الإلتزامات السياسية لقطر مع دولة الكيان الصهيوني    إيران: هجوم إسرائيل على قيادات حماس في قطر "خطير" وانتهاك للقانون الدولي    نجاة وفد الحركة بالدوحة من محاولة اغتيال إسرائيلية    سلاح الجو السوداني يشن غارات مكثفة على مواقع ميليشيا الدعم السريع في محيط بارا    ديب ميتالز .. الجارحى ليس شريكا    شعب منكوب محاط بالغزاة والطامعين ومغتصبي الأرض والنساء والمعادن    "فيلم ثقافي".. هل تعمد صلاح استفزاز بوركينا فاسو؟    «لا يُجيدون الفصحى».. ممثل سوري شهير يسخر من الفنانين المصريين: «عندهم مشكلة حقيقية» (فيديو)    التدابير الحتمية لاستعادة التعافي الاقتصادي    ضبط (91) كيلو ذهب وعملات أجنبية في عملية نوعية بولاية نهر النيل    الهلال والأهلي مدني يتعادلان في سيكافا    تمويل مرتقب من صندوق الإيفاد لصغار المنتجين    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    مواعيد خسوف القمر المرتقب بالدول العربية    وزارة المعادن تنفي توقيع أي اتفاقية استثمارية مع شركة ديب ميتالز    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تفاصيل جديدة حول جريمة الحتانة.. رصاص الكلاشنكوف ينهي حياة مسافر إلى بورتسودان    قوات الطوف المشترك محلية الخرطوم تداهم بور الجريمة بدوائر الاختصاص وتزيل المساكن العشوائية    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    من صدمات يوم القيامة    "وجيدة".. حين يتحول الغناء إلى لوحة تشكيلية    فعاليات «مسرح البنات» في كمبالا حنين إلى الوطن ودعوة إلى السلام    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    أخطاء شائعة عند شرب الشاي قد تضر بصحتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علم اللغة بين ابن جنيِّ وفردناند دي سوسير ..
نشر في الراكوبة يوم 25 - 03 - 2012


بقلم: عبد المنعم عجب ألفيا
[email protected]
ليس القصد من هذه المقالة المقارنة التفضيلية بين نظريات علم اللغة الحديث وما توصل إليه علماء اللغة العرب الأوائل من معارف في اللغة وعلومها. فالمعارف تكتسب من خلال تقدم العلم وتراكم الخبرات المعرفية وتطور وسائل البحث عبر الزمن.
وإنما القصد الإشارة إلى قدرة علماء اللغة العربية القدامى على النفاذ إلى دقائق مسائل اللغة ومقاربة قضايا هي من صميم اختصاص علم اللغة الحديث.
كما لا تهدف هذه المقالة إلى المقارنة بين فردناند دي سوسير وابن جني. والغاية من إيراد اسميهما في العنوان هي إبرازهما كرمزين من رموز علم اللغة قديما وحديثا.
فردناند دي سوسير (Ferdinand de Saussure 1857-1913) هو عالم اللغة السويسري الذي ينظر إليه بوصفه مؤسسا لعلم linguistics اللغويات أو اللسانيات الحديثة.
أما أبو الفتح عثمان بن جنيِّ فهو أحد أبرز علماء فقه اللغة العربية الأفذاذ في القرن الرابع الهجري ( توفي 392 ه).
في تعريفه للغة يقول ابن جني :" حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم". لم يقل أن اللغة ألفاظ أو كلمات ولكنه قال "أصوات" speech sounds وأصوات أشمل وأعم وهو المصطلح المستخدم في علم اللغة الحديث، وعلم الأصوات phonetics من أحدث علوم اللغة . والفونيم phoneme هو أصغر وحدة صوتية، فالحرف فونيم.
أما قوله :"يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" فهو تقرير للوظيفة الاجتماعية والمعرفية والتواصلية للغة. ووظيفة اللغة هذه، لا خلاف عليها، وهي من البداهة بحيث أنها ليست في حاجة إلى التدليل.
ويلخص الإمام فخر الدين الرازي هذه الوظيفة والحاجة إليها، بقوله :" الإنسان الواحد، وحده، لا يستقل بجميع حاجاته، بل لا بد من التعاون، ولا تعاون إلا بالتعارف، ولا تعارف إلا بأسباب، كحركات، أو إشارات، أو نقوش أو ألفاظ توضع بإزاء المقاصد. وأيسرها وأفيدها وأعمها الألفاظ". - المزهر ص 38
ولا يعدو دي سوسير في تعريفه اللغة أبعد مما ذهب إليه ابن جنيِّ ورفاقه. إذ يقول:
A language is a system of signs expressing ideas"
"اللغة نظام من العلامات أو الإشارات للتعبير عن الأفكار". ويضيف : " اللغة مؤسسة اجتماعية".
ولكن ما أصل اللغة؟
هل هي موضوعة بمعنى أن الناس تواضعوا وتعارفوا عليها تدريجيا شيئا فشيئا حتى صارت نظاما متكاملا في التواصل بين الأفراد ؟ أم أنزلت من السماء هكذا؟
ناقش فقهاء اللغة العربية وعلم الكلام الإسلامي هذه القضية تحت عنوان : اللغة هل هي اصطلاح أم توقيف؟ يعني هل اللغة وقفاً منزلاً من الله أم هي مصطلحات لفظية نشأت في هذه الدنيا واكتسبها الإنسان اكتساباً؟
وقد انقسموا فيما بينهم فمن قائل هي توقيف ووحي وإلهام، ومن قائل هي اصطلاح وتواطؤ. ومنهم من جمع بين الرأيين، فقال هي توقيف واصطلاح. أما ابن جني فيقول في كتابه الخصائص:" أكثر أهل النظر على أن اللغة إنما تواضع واصطلاح، لا وحي ولا توقيف". ويرد على من احتجوا من أهل التوقيف، بالآية القرآنية : "وعلم آدم الأسماء كلها" بقوله، وهذا لا يتناول موضع الخلاف. ويجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضعه عليها. " ص 99
وإذا سلمنا بان اللغة موضوعة، فالسؤال الذي يطرح نفسه فكيف اهتدى الإنسان إلى ألفاظ اللغة؟ كيف نشأت اللغة أول ما نشأت؟
هنالك نظريات عدة عن أصل اللغة. أول هذه النظريات نظرية المحاكاة، محاكاة أصوات الطبيعة والأشياء. وتسمي هذه النظرية عند علماء اللغة المعاصرين، The bow-wow theory.
وكان ابن جني ورفاقه قد اهتدوا إلى هذه النظرية في نشأة اللغة، يقول:" وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم تولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل". – الخصائص ص 99
وغير هذا هنالك العديد من النظريات في أصل نشأة اللغة لا نريد أن نخوض فيها هنا - وكلها فيما نرى تكمل بعضها - ولمن أراد الوقوف عليها فليراجعها في مظانها.
والقول بان اللغة تواضع وليس وحياً أو توقيفاً، يترتب عليه القول بان معاني الألفاظ أيضا مكتسبة وليست أزلية بمعنى أن العلاقة بين اللفظ ومعناه علاقة عرفية يمليها العرف وليست طبيعية موحى بها من السماء. خذ مثلا لفظ شجرة في اللغة العربية، هل دلالته على الشيء المسمى شجرة دلالة طبيعية ذاتية أم أن العرف جعل الناس يطلقون على هذا الشيء اسم شجرة بحيث كان من الممكن أن يحل أي لفظ آخر محله للإشارة إلى الشجرة؟
وقد ناقش علماء العربية هذه المسالة تحت عنوان مناسبة الألفاظ للمعاني. وخلصوا إلى أن العلاقة بين اللفظ ومعناه علاقة وضعية وليست طبيعة جوهرية أزلية. وشذ عنهم قوم منهم عباد بن سليمان من المتكلمين (علماء علم الكلام) وذهب إلى أن الألفاظ تدل على المعاني بذاتها، يقول: " بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية موجبة حاملة على الواضع أن يضع وإلا لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا من غير ترجيح". ص 47 ولكنهم ردوا عليه لو أن اللفظ دل بذاته على معناه لفهم كل واحد منهم كل اللغات.- المزهر ص 16 و17
ويتوصل دي سوسير إلى ذات النتيجة التي توصل إليها علماء العربية من أن العلاقة بين اللفظ ومعناه علاقة وضعية لكنه يستعمل لفظا آخر أكثر جذرية ( إن لم نقل أكثر إثارة) حين يصف هذه العلاقة بالاعتباطية أو الجزافية . يقول: linguistic sign is arbitrary ويستدل على ذلك بذات الحجة التي استدل بها علماء العربية وهي أنه لو كانت دلالة اللفظ على معناه طبيعية لما اختلفت اللغات ولتحدث الناس لغة واحدة. ومعنى اعتباطية انه لا يوجد منطق يلزم أن توضع مثلا كلمة شجرة في العربية على ما سواها من ألفاظ في الدلالة على الشجرة. يقول:
“There is no internal connexion, for example, between the idea sister and the French sequence sor. The same idea might as well be represented by other sequence of sounds."
"لا توجد علاقة ذاتية جوهرية مثلا بين فكرة الأخت في الفرنسية والحروف المكونة لكلمة "سور" نفس الفكرة يمكن أن يمثل أو يرمز إليها بحروف أخرى". ص68
هذا، ويرى سوسير أن فكرة اعتباطية العلامة اللغوية، هي من البداهة بحيث لا أحد يمكن أن يجادل فيها. ويدلل على هذه البديهية بحقيقة الاختلاف بين اللغات وبتغير دلالة الألفاظ في اللغة الواحدة من عهد إلى عهد. ولكنا نرى أن لفظة arbitrary تبدو نافرة في هذا السياق لأنها تتعارض مع فكرة كون أن اللغة نسق أو نظام، حسب تعريف سوسير نفسه. ولو انه استعمل كلمة عرضية incidental غير جوهرية (بالمعنى الفلسفي) أو عرفية conventional، لكان أنسب. نقول ذلك ولا ندري هل الكلمة الفرنسية المستعملة في النص الأصلي لها نفس وقع كلمة arbitrary الانجليزية.
وما يؤكد الحاجة إلى ما ذهبنا إليه، أن سوسير يستدرك في سياق حديثه عن اعتباطية العلامة اللغوية، أن القول باعتباطية العلامة لا يخول للمتكلم الحق في اختيار أو تغيير العلامة جزافا كيفما اتفق متى ما استقرت هذه العلامة (الكلمة) في المجتمع:
“The word arbitrary .., must not be taken to imply that a signal depends on the free choice of the speaker.., the individual has no power to alter a sign in any respect once it has been established in a linguistic community."
وما دام الأمر كذلك، فان كلمة اعتباطية تكون قد فقدت معناها ويستلزم ذلك أن تستبدل بلفظ أكثر مناسبة.
وتولد المعاني ناتج، حسب نظرية دي سوسير من اختلاف دلالة الألفاظ عن بعضها البعض في النسق أو البنية الكلية للغة. فالشجرة هي شجرة لأنها ليست بقرة أو بغلة. والأحمر أحمر لأنه ليس أسود أو أخضر ألخ .. وهذه بداهة تعطيها الملاحظة العادية وليست في حاجة إلى بعد نظر أو طول تأمل. وقديما قيل: بضدها تتميز الأشياء.
ولكن مع ذلك توجد ألفاظ تدل بذاتها على معناها. وهي بالتالي تعد استثناء من قاعدة اعتباطية العلامة اللغوية حسب مصطلح سوسير. من ذلك الكلمات التي يتولد معناها من لفظها ووقعه في الأذن مثل كلمة رجّ وخجّ وأزيز وهسيس وخرير وغيرها في العربية. إضافة إلى ألفاظ التعجب والتأوه والتوجع الخ .. وتسمي هذه الألفاظ في علم اللغة Onomatopoeic ولكن سوسير يرى أن نسبة مثل هذه الألفاظ الدالة بذاتها على معناها، قليلة لا تخل بالقاعدة العامة في اعتباطية أو جزافية العلاقة بين الألفاظ والمعاني.
وقد فطن علماء العربية إلى مثل هذه الألفاظ الدالة على معناه بذاتها والتي تعد استثناء من القاعدة العامة. يقول ابن جنيِّ: " قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدا فقالوا: صرَّ. وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على وزن الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة، نحو النقزان، والغليان، والغثيان. فقالوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال". – الخصائص.
ثم يضيف قائلا :" ووجدت أنا أن من هذا الحديث أشياء كثيرة .. وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير، نحو الزعزعة، والقلقة، والصلصلة، والقعقعة، والصعصعة، والجرجرة، والقرقرة. ووجدت أيضا (الفعلي) في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة، نحو: الشبكي، والجمزي والولقي.." الخصائص - ص505
إلا أن الإضافة المهمة التي تُعزى إلى دي سوسير وبسببها احتل هذه المكانة كمؤسس لعلم اللغة الحديث هي القول بان العلامة اللغوية (اللفظ ومعناه) تتكون من وجهين كوجهي الورقة الواحدة لا ينفصلان: هما: الصورة الصوتية sound pattern والصورة الذهنية concept . وبالتالي يصبح لدينا ثلاثة عناصر في عملية الترميز اللغوي : الصورة الصوتية ( الدال) والصورة الذهنية ( المدلول) والشيء أو المسمى المشار إليه referent .
وبذلك صارت المسألة عنده أكثر تعقيدا إذ دخلها عنصر جديد هو الصورة الذهنية أو السيكولوجية للمعنى. بعبارة أخرى أن اللفظ حسب سوسير لا يشير مباشرة إلى المسمى في الواقع. ولذلك فان سوسير يزعم أن العلاقة أصلا ليست بين العلامة اللغوية والشيء أو الاسم وإنما بين الصورة الصوتية وبين المفهوم أو الصورة الذهنية للشيء التي تثيرها في النفس الصورة الصوتية. يقول:
A linguistic sign is not a link between a thing and a name, but between a concept and a sound pattern.
ومن شأن هذا التمييز الإجرائي بين اللفظ ومعناه من جهة والشيء أو المسمى من جهة أخرى أن تثير بعض الإشكالات، من أبرزها انه قد يفهم منه أن المراد عزل اللغة عن الواقع. وذلك بالرغم من أن سوسير لم يهدف إلى ذلك مطلقا بل يؤكد دائما على الوظيفة الاجتماعية والتواصلية للغة باعتبارها الغرض الأساس من اختراع اللغة. ولكنه أقام هذا التمييز – فيما نرى، من باب الحرص على عزل العناصر الخارجية للغة بهدف دراسة اللغة دراسة علمية صارمة كنظام مستقل لاستنباط قواعد تصلح للتطبيق على دراسة أي لغة.
إلا أن المثير للدهشة أنني وجدت فريقا من علماء العربية قد أثار ذات المسألة وتوصل إلى ما توصل إليه سوسير في موضوع العلاقة بين الصورة الذهنية للفظ والشيء الدال عليه في الخارج ،حيث تسآءلوا: "هل الألفاظ موضوعة بإزاء الصور الذهنية- أي الصورة التي تصورها الواضع في ذهنه عند إرادة الوضع- أو بإزاء الماهيات الخارجية ؟
يذهب فخر الرازي وأتباعه إلى أن الألفاظ موضوعة إزاء الصورة الذهنية وليست بإزاء الماهيات(الأشياء) الخارجية. واستدلوا عليه بأن اللفظ يتغير بحسب تغير الصورة في الذهن. وأن اللفظ دائر مع المعاني الذهنية دون الخارجية فدل ذلك على أن الوضع للمعنى الذهني لا الخارجي. – المزهر ص 42
إلا أن بعضا من علماء العربية والمتكلمين رفضوا هذا التمييز بين دلالة الشيء وصورته الذهنية والشيء في الخارج وقالوا :" إن اللفظ موضوع بإزاء المعنى من حيث هو، مع قطع النظر عن كونه ذهنياً أو خارجياً، فإن حصول المعنى في الخارج والذهن من الأوصاف الزائدة على المعنى، واللفظ وضع للمعنى من غير تقييده بوصف زائد. ثم أن الموضوع له قد يوجد في الذهن فقط كالعلم ونحوه". - المصدر السابق ص 42
وفي سبيل وضع منهج صارم يصلح لدراسة اللغة أي لغة، يرى سوسير ضرورة عزل الكلام عن اللغة. قد يبدو هذا مستغربا لأول وهلة. وهل هنالك فرق بين اللغة والكلام، ما الكلام؟ أليس هو لغة؟ بلى ! الكلام لغة، ولا كلام بدون لغة ولا لغة بدون كلام. هذا ما شدد عليه سوسير نفسه . ولكن الأمر في غاية البساطة. فسوسير مهموم هنا بالعناصر التي تشكل هيكل اللغة وبنيتها وتهيأها لأداء وظيفتها. وليس مهموما بمضمون اللغة أو ما تقوله اللغة فعلا. فذلك ليس مهما في تعقيد نظرية كونية لدراسة اللغة. وهو ينظر إلى الكلام بوصفه نشاط فردي متغير بتغيير المواقف والأفراد أما اللغة كنظام كلي تتمتع بثبات نسبي.
ولتقريب الصورة نقول أن العلاقة أشبه بعلاقة القماش بالملابس. فالكلام حسب سوسير، أداة اللغة ومنتوجها. ولكن تاريخيا الكلام له الأسبقية على اللغة وهو الذي يدفع بحركة نمو اللغة و تطورها. أو بعبارة سوسير بالانجليزية:
Historically, speech always takes precedence. It is speech which causes a language to evolve."
ومثلما ميز دي سوسير بين اللغة والكلام، ميز علماء العربية كذلك بين الكلام واللغة من خلال تميزهم بين مفردات اللغة والتراكيب (الجُمل). فالتراكيب والجمل أي إنشاء الكلام، يرجع، في نظرهم إلى المتكلم. ودلالة الكلام حسب فخر الدين الرازي عقلية لا وضعية. قال الزركشي في بيان ذلك : " لا خلاف أن المفردات موضوعة واختلفوا في المركبات فقيل ليست موضوعة. وما ذاك إلا لان الأمر فيها موكول للمتكلم. واستدلوا على هذا الرأي بقولهم لو كان الكلام دالاً بالوضع وجب ذلك فيه ولم يكن لنا أن نتكلم بكلام لم نسبق إليه كما لم نستعمل من المفردات إلا ما سبق استعماله وفي ذلك عدم برهان على أن الكلام ليس دالا بالوضع" . المزهر - ص 43
وتأييدا لذلك قال آخر: واضع اللغة لم يضع الجُمل كما وضع المفردات، بل ترك الجُمل إلى اختيار المتكلم. يبين ذلك أن حال الجمل لو كانت حال المفردات لكان استعمال الجمل وفهم معانيها متوقفا على نقلها عن العرب كما كانت المفردات. كذلك لوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجمل ويودعوها كتبهم كما فعلوا ذلك بالمفردات. ص 40 ،41
هذا، وقد استغلت بعض التيارات لاسيما في الأدب والنقد، مثل البنيوية والتفكيكية، نظريات دي سوسير المشار إليها وبخاصة فصله بين الكلام واللغة وتميزه بين العلامة اللغوية والشيء في الخارج وذلك لأغراض بحثية ومنهجية بحتة، وذهبت بها مذاهب أبعد، وصرفتها عن وجهتها وعن المراد منها. ولذلك انتهت البنيوية إلى عزل النص عن سياقاته الخارجية ومضمون رسالته، بينما فصلت التفكيكية بين وجهي العلامة اللغوية أي بين الدال والمدلول، بين اللفظ ومعناه، وبذلك جردت اللغة من وظيفتها التواصلية والمعرفية.
المصادر:
1- أبو الفتح عثمان بن جنيِّ ، الخصائص، الجزء الاول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2001
2- عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها ،الجزء الاول، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
3- F. de Saussure, Course in General Linguistics, Translated by Roy Harris, Duckworth ,London, 1998


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.