محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    البرهان يشارك في القمة العربية العادية التي تستضيفها البحرين    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وأقبلت جوقة الإنشاد: وداعاً ربيع الأدب
نشر في الأهرام اليوم يوم 09 - 04 - 2010

كان مشهداً فريداً ومؤثراً حين أقبلت جوقة الإنشاد، كانوا شباناً لم يتجاوز عددهم العشرين، يرتدون البياض كأنهم أطيافُ طيور تراوح في فجرية غائمة، يشكلون مربعاً صغيراً ويسيرون في خطوٍ منتظم نحو سرادق المأتم. كانوا ينشدون بأصوات شجية عذبة، حضورهم المفاجئ باغت المعزين؛ فالتفتوا ناحيتهم ينظرون، توقفوا هنيهة قبل أن يتفرقوا داخلين إلى المكان في هدوء ووقار. ما استغرق التفكير كثير وقت؛ فهؤلاء هم شباب الإسماعيلية لا غير، فتساءلت، من الذي يعرف تلك العلاقة الواشجة التي تربط كوكبة المنشدين هذه بالراحل الكبير؟ من الذي يعرف ذلك الخيط العرفاني الذي يشدُّ أضرحة الدبة بذلك الضريح الثاوي في قلب مدينة الأبيض؟ رأى الطيب صالح هؤلاء المنشدين الشباب وهو في مهجعه السماوي الوثير، وأخذ يرمقهم بمودة وحبور، ويقول «لذلك عدت إليكم عترتي بعد هذا الغياب الطويل حاملاً جذوة أشواقي ومحبتي، وولائي الذي لا يزول».
قال حين كتب «دفناها عند المغيب، كأننا نغرس نخلة، أو نستودع باطن الأرض سراً عزيزاً»؛ هكذا كان حاله هو. يسرٌ وسهولة في كل ما تعلق بعودة جثمانه، ودفنه. اليوم كان الجمعة، والشوارع ساكنة، إلا من سيارات قليلة عجلى تشق الطريق العام، تخترق صمت المشيعين الواقفين أصوات تجهش بالبكاء، من وقت لآخر، تكاد لا تسمعها من فرط وقارها. عندما فرغوا من دفنه، وأخذوا ينفضُّون من حول القبر؛ قلتُ أقف قليلاً مودعاً، ألفيت قبراً متطامناً، لم يشرئب عن الأرض كثيراً، وما ارتفع، فرغ أناس منه للتو، ولكنه بدا كقبر دارس، مضت عليه سنوات، أهكذا أنت في الحياة وفي الممات!
ما أكثر ما لذنا بإبداعه حين كانت الآفاق تعتكر وتنقبض النفوس. نتناول أعماله من قريب، فلم تبعد عنا يوماً، نلج عوالمه الساحرة؛ فتنجاب عنا سحائب الحزن وتوترات الغربة، وحين يجدُّ بشأنه حديث؛ نحاول الكتابة عنه حباً واحتفاء.
استكتبته ذات مرة، جريدة (الاتحاد) الظبانية، التي كنت أعمل فيها، ظل مثابراً يكتب عموداً أسبوعياً يبعث به من أي مكان تقوده إليه خطاه في كل أنحاء العالم، ما اعتذر يوماً، ولا سأل عن أجره. كتب مرة عن رحلة له إلى نيويورك، قال إنه قضى نهاراً رائقاً وضيئاً في ضيافة المدير الإقليمي لمنظمة اليونسكو هناك، الفاتح إبراهيم حمد، هزَّه كرم أهل الدار وأريحيتهم، وتحدث عن أصهار الفاتح، أهل الحلفاية الكرام، رأى من بينهم شقيقة ربة الدار، سيدة ذات جمال وكمال، تزمع الهجرة إلى كندا، فأمضَّه ذلك وأضناه. أشار إلى عنت الأيام والظروف التي تدفع ببنات العائلات الكريمة إلى الهجرة. كنت عائداً من عطلة قضيتها في لندن، في ضيافة صديقي الشاعر راشد سيد أحمد، أكرمنا أصدقاؤه، ومن بينهم نفر من أهل الحلفايا، أكرموا وأفاضوا.
كتبت مقالة حول حديثه ذاك، فالفاتح كان من أهل مدينتي، كوستي، ما زلت أذكره أيام الطفولة، يتقدمنا في الدراسة، مشاغباً، عذب السلوك. ومنذ تلك المقالة ألزمني صديقنا المرحوم الفاتح التجاني، سكرتير التحرير بالجريدة، بالكتابة الأسبوعية، التي امتدت لسنوات، واحتواها في وقت لاحق كتاب (أصوات في الثقافة السودانية).
في منتصف سنوات الثمانين من القرن الماضي؛ التحقت بجريدة (أخبار الخليج) بالبحرين، محرراً مترجماً، قلت أناوش صفحة الأدب أحياناً بشيء مما أكتب، تناولت تجربة الطيب صالح الروائية، كنت منفعلاً بأعمال ماركيز، لا سيما رائعته (مائة عام من العزلة).
غامرت بعقد مقارنة بين الكاتبين الروائيين، كنت أحاول الزعم أن المناخات الروائية للطيب صالح سبقت تجربة ماركيز في الواقعية السحرية، الكتابة أعجبت مدير التحرير، وكان مثقفاً مصرياً جم الاحتشاد، كما أعجبت عدداً من القراء والأدباء، ونلت بها حظوة، وإعجاباً لازمني حتى فارقتهم. تلك كانت إحدى فيوضات وبركات سيد العارفين. ولما زار الطيب البحرين يوماً؛ جاءني صديقي الأديب البحريني محمد فاضل؛ ليصحبني إلى الفندق الذي كان يقيم فيه الروائي الكبير، كان يرغب في إجراء حديث معه، كنت غارقاً في إعداد أخبار الصفحة الأولى؛ فاعتذرت، وفاتني لقاؤه كما فاتني مرة أخرى في عاصمة الضباب، ويا للحسرة!
في صيف عام (2002) كنت عائداً إلى أبوظبي من مهمة صحفية في العاصمة الألبانية (تيرانا)، ولما توقفت في مطار اسطنبول؛ فأجأني زوجان بلغاريان عجوزان بمعرفتهما للزعيم العمالي والنقابي العالمي إبراهيم زكريا. أطنبا في الحديث عنه، وعددا مآثره. كان الرجل البلغاري دبلوماسياً صغيراً حين التقى إبراهيم زكريا في أوائل الستينيات، ولم يبرح ذاكرته. عدت مزهواً بما سمعت؛ فكتبت، وقرأ الناس المقالة، وبعث بها صديقنا الكاتب الأستاذ الفاضل عباس إلى الطيب صالح في لندن بالفاكس، بعد أيام التقيت الفاضل الذي يمت بصلة القربى للكاتب، فأبلغني أن الطيب اتصل به هاتفياً وهو يبكي بعد أن قرأ المقالة. حتى ذلك الوقت لم أكن أعلم الصلة التي تربط الطيب صالح بإبراهيم زكريا، فاتضح لي أنه ابن خاله، حقاً هذه الأرض لا تنجب سوى الأفذاذ والنجباء، تلك البقعة، زعم الإخباريون القدامى أنها شهدت نشأة الخليقة الأولى، وقامت على ثراها حضارات الإنسانية البكر، ونشأت فيها ممالك كثر، آخرها مملكة الدفار، وانتشر بنوها في مختلف بلاد السودان منذ الزمن القديم. برزوا، ونبه ذكرهم، فمنها جاء الشيخ إسماعيل بن عبد الله الولي الكامل الذي اختط طريقة صوفية سودانية خالصة، ما زال شذاها يعطر دروب السالكين، وحاج عبد الله الدفاري ما برح ضريحه ظاهراً يزار في الكوة بالنيل الأبيض. قال أحد حوارييه «كان القرب منه الجنة بعينها ولا أطمع في جنة سواها»، ما زالت كراماته تترى والحديث عنه على كل لسان.
ومن قرية أبكر بتلك المنطقة برزت والدة النور عنقرة إلى غردون باشا تحدثه بشجاعة بشأن ابنها الذي كان موظفاً في الإدارة التركية، كان غردون جاء في مهمته الأخيرة حكمداراً على السودان ليعمل على إخلاء الحاميات.
والنور عنقرة دوره مشهود في التركية والمهدية التي انحاز إليها وبات أسطورة في معاركها بإقدامه الإسبرطي، وروحه القتالية المتمردة، ولعل التاريخ لم يذكر كثيراً ابن أخته الحاج أبو بكر الذي قذفت به جسارته إلى المكسيك محارباً في صفوف الأورطة السودانية المصرية في منتصف القرن التاسع عشر. ذكر عارفوه أنه عاد إلى السودان بخبرته العسكرية ومهاراته الحديثة في القتال وانخرط في صفوف أنصار المهدي، وحين شارك في معارك الحبشة؛ حدث أن تقدم العدو في بحر متلاطم من الجنود، فأحرز نصراً مؤقتاً على الأنصار. خرج فصيل بقيادة الزاكي طمل وعبد الله ود إبراهيم والحاج أبو بكر، لحقوا بجيش الأحباش، زغردت النساء السبايا؛ حين رأينهم يكرون، قذفوا بأنفسهم في قلب جيش العدو، كانوا يقاتلون كالمردة والغيلان، اندفعوا نحو موقع الإمبراطور فقتلوه، وأنتزعوا رأسه وتاج ملكه، غيَّروا نتيجة الحرب وعادوا ظافرين.
من هذا المكان أيضاً انحدر أسلاف المفكر الإسلامي الشهيد محمود محمد طه، والعالم الموسوعي الدكتور التجاني الماحي، والشاعر المبدع محمد المكي إبراهيم، وغيرهم كثر. أليس حرياً بالمؤرخين أن يلتفتوا لظاهرة هذه البقعة التي لا تنجب سوى الأفذاذ؟
كان يونس الدسوقي من الصداقات العظيمة التي اكتسبها الطيب صالح في السنوات الأخيرة ربما كان يونس يكبر الطيب بأربع أو خمس سنوات على وجه التقريب. وكان اتخذ من القاهرة منفى اختيارياً له منذ أوائل العقد الأخير للقرن العشرين غادر السودان مغاضباً حين غدت الأيام عصيبة وعتمة النفق لا تبشر ببصيص سرعان ما تعرف الناس على قدراته المدهشة ومعارفه الموسوعية ومهاراته اللغوية في الحديث وشخصيته الآسرة. بات فندق هابيتون في قلب القاهرة محجة يفد إليها الناس يحدثهم أحاديث يتجملون بها ويجدون فيه صورة السودان الضائعة فالتقيا، الطيب صالح ويونس، واكتشفا أنهما يحملان نفس الهوى والروح يتحدثان في الأدب والتاريخ ويتباريان في رواية أشعار المتنبئ وذي الرمة يتعابثان أحياناً فيصنع الطيب روايات صغيرة ملؤها السخرية والعبث كان ثالثهما هو صديقهما محمود صالح الذي لا يلتقيان دون حضوره المشرق وروحه العامرة. انتظم الطيب صالح في زيارته للقاهرة كل عام ليلتقي بصديقه لزيم الخان وتظل اصداء زيارته لفندق هابيتون يتداولها العاملون الذين أسعدتهم نفحاته المالية السخية وما دار بخلدهم أن الكاتب صنع منهم مادة لدعاباته وحكاياته المرحة التي يسعد بها صديقه يونس.
حين زرنا القاهرة في صيف عام 2004 أقمنا مع يونس في فندقه. كنا في انتظار محمود صالح الذي كان في أصيلة مع الطيب يشاركان في المهرجان. عاد محمود وحده بعد أن ودع صديقه الذي عاد إلى لندن. كنا تمنينا أن يعودا معاً فتسعدنا رؤية الكاتب إلا أن محموداً الذي ما فارقنا طيلة أيام زيارتنا عوضنا وأفاض أما يونس فقد غمر أماسينا رغم الوهن وفقدان البصر بكرمه الجموم وأحاديثه العذاب وذكرياته المليئة بالطرائف والنوادر. كان الطيب صالح حاضراً دوماً في تلك الأحاديث خاصة عندما يكون صديقنا مصطفى عبادي حاضراً. كان عبادي يروي لنا النكات التي كان الطيب يستجيدها ويستملحها.
تلك أيام لن تعود فقد مضى يونس إثر عودته إلى السودان قبل عامين أو يزيد، وها هو صديقه الطيب صالح يعود محمولاً على نعش بعد اغترابه الطويل ليدفن إلى جواره في مقابر البكري فعليهما الرحمة.
اشتهر الطيب صالح بالرواية، وطبقت الآفاق شهرته. كتب ما كان يفيض من بين جوانحه من إبداع فلم يسرف في الكتابة ولم يتفرغ لها وربما كان برماً بها عزوفاً، فالكتابة ما كانت ضالته، باغتته الأضواء ولم يسعد بذلك، فما أراد أن يستكثر منها، حسبه ما صنع، كان يغوص في قراءات عميقة ما أفصح عنها، كانت تتبعثر في أحاديثه وتند في نثره، ذلك النثر الذي استعذبه قراء العربية وهاموا به، كانت له نظرات نقدية فاحصة، لا سيما في الشعر الذي كان كلفاً به ولوعاً.
ببصيرته النافذة، وقدراته الإبداعية المدهشة، كتب الطيب صالح مقالات في النقد والأدب والرحلات، كتب بالنفس الروائي المعهود، واللغة الباذخة المتألقة، تناول المتنبي فأحسن وأفاض، ووقف في مواجهة كتاب العربية الكبار بشأنه، وطرح آراء جريئة حول أفكار طه حسين وأطروحاته، ما استطاع الواقفون إلى جانب عميد الأدب العربي مقارعة الطيب صالح، وسرعان ما لاذوا بالصمت، مخلفين له الساحة وحده، يروح ويغدو في يسر واقتدار. تمنينا لو كان أعطى النقد وقتاً؛ لغدا نجماً وحيداً في سمائه، فمن الذي قرأ مثلما فعل هو؟ ومن الذي يستطيع النفاذ إلى جوهر الأشياء مثلما كان يفعل؟ حين كتب مقدمة كتاب (معاوية نور) لمؤلفه صديقه السني بانقا؛ تناوله بالنقد الموضوعي الصريح، والنظرة الإنسانية الحانية كان ناقداً حين كتب، وإنساناً رقيق القلب بادي الإشفاق. ظن البعض أنه ينتقص من قدر معاوية حين أشار مرة في لقاء عابر مع صديقه السني إلى أن معاوية تعالى على بعض الكتاب المصريين، لم يكن ذلك رأياً نهائياً مكتوباً، كان حديثاً عابراً وحسب، إلا إنه في الواقع تناول تجربة معاوية النقدية بشأن شعراء الرومانتيكية في ذلك الزمن، برؤيته التي قد لا تتسق مع رؤية الآخرين. أعد له في تلك المقدمة سيناريو مختلفاً، وتمنى له مآلاً غير الذي آل إليه، فأودي بحياته على ذلك النحو المأساوي، تمنى له ما كان يصبو إليه أي معاوية وهو جدير به، وذلك بأن تقوده يد القدر إلى معاقل المعرفة؛ ليحلق في سماوات الفكر الغربي الذي ارتاده ونبغ فيه، فقد كان طموحه سيتحقق إذا توجه إلى أكسفورد، أو كيمبردج، بؤرتي الإشعاع الفكري، والانطلاق الروحي، اللتين لا مثيل لهما في زمان العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. كان سيقابل العالم جوليان هكسلي، وأخاه الروائي المبدع ألدوس هكسلي، كما كان سيتعرف على ليونارد وولف، الذي تزوج في وقت لاحق من الروائية العبقرية فرجينيا وولف، وغيرهم من عباقرة الفن والاقتصاد وزعماء الجماعة الفابية.
وأشار إلى نقطة مفصلية في حياة معاوية؛ حين أعرب عن دهشة بالغة من إحجام الإنجليز عن إرسال معاوية إلى أكسفورد أو كيمبردج، وهو ذلك الصبي الذي كان دون العشرين وبزَّ الإنجليز أنفسهم في الحديث عن دكتور جونسون، وشكسبير، وبرنارد شو. وبصورة عامة تجد رؤيته لتجربة معاوية في غاية العمق والإمتاع، لم تكن مجرد نظرات ناقدة، بل كانت نصاً إبداعياً يطمح لأن يكون رواية تغدو ضمن أعماله الخالدة.
كتب الكاتبون نقاداً ومحبين، عرباً وسودانيين، منذ غيابه الفاجع. أسالوا حبراً كثيراً وسيظلون يفعلون؛ ما دامت للأدب سوق قائمة، وليس ذلك كثيراً على هذا الرجل الذي بات في عداد الخالدين. كانت كتاباتهم مثقلة بالحزن والإحساس بمرارة الفقد؛ كأنهم لم يتوقعوا له الغياب. استوقفتني بعض الكتابات لكتَّاب عرب ما كانوا بعيدين عن إبداع الرجل، ولا سيرته الشخصية التي أدهشت كل من تابعها.
سمير عطا الله، كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط»، جاء في عموده في الصفحة الأخيرة غداة وفاة الطيب صالح «كان يحول الشجرة إلى حكاية، والصبا والشقاء والهجرة والبقاء والترعة والفلاحين وصوت الغابة وغناء أفريقيا والتيه في عالم الرجل الأبيض وأضواء المدينة وإبحار العمامة البيضاء في نوتات بيتهوفن ومؤلفات شيللي ومناخات مور، ويحولها كلها إلى حكاية يأسر بها قارئيه». ثم لا يلبث أن يستطرد في عموده قائلاً «لم يفلسف الطيب صالح المشاهدات، ولم يطرح القضايا، بل رسمها مثل غويا، ولم يثر المسائل بألفاظ طنانة بل زرعها في السهول ببساطة وعفوية، لم يتوسل لشهرته ظلامة أفريقيا ولم يستمهل أحداً عند بشرته ولم يستوقف أحداً. مثل النيل مضى وتركنا نتبعه، يقلده المقلدون عبثاً فقد كان خليطاً سرياً مثل القهوة الآتية من شجرة بن لها ألف لون وألف عبق». هذه نظرات نافذة ولاريب من كاتب يبدو اهتمامه بالأدب عميقاً وواضحاً وهي تبدو كانطباعات قارئ محب قادر على التعبير استطاع أن يسبر أغوار العوالم الإبداعية للطيب صالح ويستمتع بنصوصه.
استوقفني ما كتب ياسر عبد الحافظ، وهو روائي مصري شاب «انشغل بنا وانشغلنا بأنفسنا عن معرفته، وكأنك تطارد سراباً في صحراء، كائناً أسطورياً في غابة يحفظ كل دروبها وأنت أعمى خلف أثره الذي لا يكاد يُرى، يقترب من المستحيل أن تكون هناك شخصية مثل الطيب صالح، لا أحد هكذا، ربما فقط في الفن نصدق، إنما في الواقع ملعب الآلام الواسع؛ فهناك الصراع بكل ما يحويه من متناقضات». ويقول في مقاله الذي نشرته صحيفة (الأحداث) في العاشر من مارس 2009م «يبدو أنه كان قراراً من البداية، أن يقتصد نفسه لنفسه، هكذا نجح في العبور من وسطنا بعد أن نجحت خطته تلك، التي تعتمد على قاعدة واحدة لا غير: أنا لست هنا، لا تعتبروني، هكذا، حقيقة». هذه رؤية كاتب روائي يستبد به الخيال فرأى في سيرة الطيب ما هو أقرب إلى الخيال من الواقع فدفع به إلى الدائرة التي يقف فيها البطل وحيداً بكل الخصائص التي يوفرها له السياق الدرامي فنجح في الإشارة إلى عظمة الكاتب وسجاياه الباذخة. ومما لفت النظر كذلك إشارته إلى كلمة الناقدة هدى فايق التي كتبت تقول: «اتصفت أعماله بأناقة اللغة والغزارة الشعرية التي تجعل من رواياته قصائد صوفية كونية، هذا بالإضافة لتجديده في بنية الرواية العربية من خلال استخدامه الواعي والمؤصل لتيار الوعي في كتابته، وغوصه في عمق الشخصية العربية ليحررها من حدود المكان الضيق إلى الفضاء الإنساني الفسيح».
ظل محمد بن عيسي، وزير الخارجية المغربي الأسبق، وأمين عام مؤسسة منتدى أصيلة؛ يمحض الطيب صالح وداً عميقاً وتعلقاً مشبوباً ويناديه ب(سيدي الحشوم). قال عنه مرة «هو كل كامل يقاسمك أحاسيسك، لا يعادي ولا يحاسب ولا يلوم. وهو كل كامل لا ينافق ولا يحابي، قنوع لدرجة إهمال حقوقه ومستحقاته، دؤوب بقهقهته وتقاسيم وجهه وشرود نظراته، كل شيء لدى الطيب ملفوف في الحشمة والتقشف ونكران الذات».
هذه كلمات رجل اقترب كثيراً من شخصية الطيب صالح ولمس ذلك التسامي الشفيف لرجل لا بد أنه أدرك جوهر الحياة وقيمتها في موازين العارفين.
لا ريب أننا قرأنا أعمال كاتبنا منذ سنوات طويلة، استعدنا قراءتها، واستعدنا وما زلنا نستعيد. نحاول التعبير عن تلك المتعة ما وسعنا ذلك، محتفين بهذه الإضافة الثرية الملهمة إلى حياتنا القاحلة الجديبة، ما زلنا نتوقف عند مفرداته ونثره المختلف الذي لم يتوفر كثيراً لدى معظم الكتاب الروائيين، نتوقف دائماً وكثيراً عند تلك المقدرة العبقرية على الوصف والتعبير، تجد ذلك في كتاباته المتناثرة، في مقالات أو أحاديث صحفية أو مقدمات لكتب، ذلك غير رواياته التي أضحت متاحة للقراء في معظم لغات العالم الحية.
كتب مرة يصف لقاء له مع الأم تيريزا، وهي مبشرة مسيحية شغلت العالم بأعمالها الإنسانية وحبها للفقراء وتفانيها في خدمتهم، رآها في صالة المغادرة بمطار الخرطوم، كان في وداع أحمد مختار أمبو؛ مدير اليونسكو الأسبق، ما قرأت نصاً أزهى وأروع مما كتب. نثر يزري بالشعر الفخيم كأنه صيحة ابن عربي «أدين بدين الحب»، توجه بكلياته وقلبه يصف ذلك الحضور الإشراقي لتلك المرأة العجائبية. قال «وكان الوقت أواخر الليل، فإذا ضوء يسطع إلى أعيننا، التفت إلى مصدره، فإذا السيدة العجيبة تدخل بهدوء كما يميل الماء في الجدول، عليها الثوب الأبيض الذي اشتهرت به، وحولها فتيات في مثل زيها، سمراوات، هنديات أو إثيوبيات، أو خليط من الأجناس. جلست على كنبة وطيئة، وجلسن حولها، وعند قدميها، كأنهن أفراخ حمام في عش. وجهها مغضن مليء بالتجاعيد، وجه جميل أجمل ما وقعت عليه عيناك، يذكرك بوجوه كثيرة أحببتها وضاعت منك في زحام الحياة، تملؤك بالحبور والحزن، وتراها خفيفة جداً، وهي صغيرة الحجم أصلاً، كأنك تستطيع أن تحملها في راحة يدك، تريد أن تحتضنها وتقبلها كما تحتضن جدتك أو أمك أو ابنتك».
لم ينس المبدع أن يربط بينها وبين الأميرة ديانا والعلاقة التي نشأت بينهما والنهاية المريعة للأميرة الجميلة والتي توافقت مع رحيل تلك السيدة العجيبة. مضت تريزا في صمت، ولم يكف الإعلام عن الضوضاء بشأن ديانا، سافرت كل واحدة منهما في نهاية المطاف وحدها، وكذلك الطيب صالح.
فأي شهاب قد سطع في سماء الأدب
وأي رجل قد توارى وذهب
غاضت الينابيع وتصوح البستان
فوداعاً أبا زينب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.