درجة الحرارة قبيل مطلع مايو الجاري فاقت ال50 درجة مئوية، وهي بكل المقاييس تُعدُّ نسبة عالية المؤشرات مما يُنذر بصيف لايمكن أن نتكهّن بما سيصير إليه من درجات حرارة تصاعدية إلى سقف لن يتراجع إلا عند يوليو وفقاً لتقديرات الأَرصاد الجوي إذا ما قورن بأصياف الأعوام الفائتة. حين تسير على أحد الشوارع يطاردك وهج الشمس، وتحاصرك (الكتمة) حتى ينتابك إحساس بأن الأوكسجين أيضاً قد تسرّب إلى خارج الولاية، كما أن الأسفلت وهو ينوء بحمل كم السيارات الهائل، (حافلات، شاحنات، مواتر). كل أبخرة عوادم هذه الأرتال الكثيرة من السيارات وحركتها الدؤوبة على جميع الشوارع جيئة وذهاباً، هي سبب مباشر في إرتفاع درجات الحرارة بالشكل المزعج الذي نراه الآن. من قبل كانت شوارع العاصمة المثلثة (سابقاً) تُرش بواسطة عربات البلدية وإلى وقت قريب كُنا نشاهدها وعلى مناطق مختلفة من هذه العاصمة، والأطفال فرحين يتراكضون خلفها. سكان أم درمان (حي بيت المال، أب روف، ودالبنا، ود أرو)، أرى الرجال يكنسون شوارعهم والنساء يقمن بالرش قبالة دورهن، وهكذا يتكرر هذا المشهد في كل صيف، فأهل العاصمة كانوا على ثقافة بما يحيط بهم من تردٍ للبيئة، وما يمكن تأديته من واجب تجاه الحي الذي يضمهم هم وأسرتهم زمناً طويلاً، فالوعي بالمكان هو ما يدفعهم للالتصاق به أكثر وبعد أن توسعت ولاية الخرطوم وضمت مدناً عديدة بأحشائها، وأكتسحها كل سكان الولايات نتيجة لسياسة الانفتاح الاقتصادي وتحرر التجارة، في زمن توقفت فيه أغلب مشاريع الولايات الزراعية والصناعية وأصاب ما أصاب من دمار لمشروع الجزيرة وهجر كل هؤلاء (الناس) الزراعة (والسعية) ليحطوا برحالهم على ولاية الخرطوم، وصدموا بواقع معيشي قاسٍ وسحقتهم آلية الحياة (الخرطومية) المتوحشة وبدوا كأنهم ترس صغير يدور داخل دائرة كبيرة لا تكف عن الدوران!! والسؤال ما علاقة كل هؤلاء بصيف هذا العام؟ والأجابة ليست ببعيدة عن سياق حديثنا،إذ أن الزحام، وعددية السيارات الكبير، وغابات الأسمنت، وتغير أشكال وإنماط الحارات القديمة الواسعة، وتراجع خطة التشجير الأولى، ولا تهاب شوارع الأسفلت، كما أن الأحتباس الحراري كان عامل آخر قوي في إرتفاع مؤشرات الحراره إلى هذه النسب الجنونية المخيفة علماً بأن ولاية الخرطوم حسب الجغرافيين تقع كامتداد لمنطقة الصحراء الجافة، إذ لا ينذر إرتفاع الحراره إلى هطول الأمطار. اليوم كنت باتجاه شارع (المك نمر) كانت السيارات على إمتداد الكبرى تتواصل في تدافعها واخرى على الاتجاه الآخر متوقفة عن الحركة في انتظار إشارة المرور الخضراء، ترى بأن العرق الغزير يُغرق وجوه سائقي هذه السيارات ما عدا أخرى تم إغلاق زجاجها بأحكام مع تشغيل المكيف، وعلى الشارع المقابل ترى طلابا جامعيين من الجنسين يتقون شواظ الشمس المحرقة بدفاترهم تمر عليهم الدقائق ثم بضع ساعة ولا يظفرون بمركبة تقلهم إلى منازلهم بعد عناء يوم دراسي طويل .. ونساء يجبن الشوارع طولاً وعرضاً يهربن إلى ظل الأشجار المتراصة على جانبي الشارع والسؤال مازال قائماً: ماذا أعددنا لصيف 2010؟ لا أحسب أن هذا السؤال المتمرد يمر من تحت جسر اهتماماتنا ومشاغلنا اليومية الصغيرة دون أن نضع تحته المزيد من الخطوط علنا ننتبه لخطورة هذا الصيف وأن تعقد الدورات التثقيفية في الأحياء، والجامعات، ودُور الِعبادة لتبصير الناس بمدى خطورة هذا الصيف، وأن نلجأ لتلطيف الجو حول بيئتنا السكنية بشتى الوسائل وذلك برش الردهات بالماء، والأشجار أيضاً نوليها عناية خاصة فهي التي تحافظ على التوازن البيئي وتجميل المكان. مررت بالسوق العربي، مازال مزدحماً بالمارة والسيارات، المحال التجارية أيضاً ممتلئة بالمستهلكين وخلاف ذلك، وألسنة الشمس الحارقة تلهب الكل، يفرون منها إلى أمكنة متعددة .. يلجأون إلى بعض المقاهي بداخل ممرات العمارات الضيقة، أو يحاصرون (ستات الشاي) بأكواب الشاي والقهوة، إلا أن العرق يغسل أجسادهم السمراء، ترى الوجوه متجهمة، وقد استولى الضيق والتبرم عليها، تحت وطأة الصيف الكل ينوء يحمل الكثير من المعاناة اليومية، وعلى المواصلات في طريق عودتهم لديارهم، تسمع بعض الركاب وقد اشتبكوا مع الكمساري عبر ملاسنات لا تنتهي إلا لتبتدئ من جديد .. وكل صيف ونحن اكثر إحتمالاً لحرارة تشوي الجلود والوجوه.