لم يكن عم محمود السعدني، هكذا يناديه كل صحافيي مصر- رجلاً أو كاتباً عادياً، بل ارتبط قلمه بتلك القيم والمبادئ التي أصبحت الآن من الأنتيكات القديمة، التي يسمح لنا فقط بالتفرج عليها من فاتارين المتاحف، فيقف عليها الحراس العظماء، يراقبها شخص ما لا نراه من خلال كاميرات للمراقبة خوفاً من السرقة، ارتبط السعدني بثورة يوليو فكان سفيراً لها لدى الشعب، اشترك في الحياة السياسة بصدق وحب وجمال من أجل أن يكون مثالا للقول الفاعل، فكان قلمه كالمبضع الألماظ الذي يدغدغ المجتمع برشاقة وبساطة عميقة، فكانت حكايات الولد الشقي التي تعتبر موسوعة ذاتية للأدب الساخر، ونموذجا فريدا لتعلم الكلام والكتابة، فتعتبر ثقافة مكتملة عن حياة وتاريخ طويل لم يخطه مؤرخ بل كتبه رجل محب للناس، دفع عم محمود الثمن باهظاً وتحمل الكثير من أجل حريته، ومن أجل الوصول إلى قلب الناس، فاعتقله السادات في سجونه بتهمة التخطيط للانقلاب، فظل خلف القضبان عامين كاملين يتنقل من سجن إلى آخر، ورغم توسط الكثيرين للإفراج عنه إلا أن الرئيس السادات رفض ذلك بزعم أنه كان يؤلف النكات عليه وعلى أسرته وينشرها بين الشعب، خرج عم محمود من المعتقل ليجد نفسه محروماً من حياته، ومن قلمه ليدخل بذلك سجنا كبيرا فرض عليه فقرر الرحيل (المنفى الاختياري) بعد أن ضاق عليه الخناق المادي والمعنوي، فتنقل من دولة إلى أخرى من السفير اللبناني، إلى ليبيا، وإلى أبو ظبي والكويت حيث عمل في جريدة السياسة الكويتية مع الأستاذ أحمد الجار الله، ثم انتقل إلى العراق ولكن بسبب الضغوط الاستخباراتية قرر المغادرة إلى لندن بعد لقاء صدام حسين الذي كان نائباً لرئيس الجمهورية في وقتها، ومن لندن أصدر جريدة 23 يوليو بتمويل من حاكم الشارقة الحالي، حيث كانت تهرب إلى مصر كالممنوعات المحرمة آنذاك لكنها سرعان ما انهارت وتوقفت عن الصدور فعاش السعدني أحزانه وحيداً بالمنفى حتى عاد إلى مصر بعد اغتيال السادات في حادث المنصة عام 1982. ولد عم محمود السعدني في القاهرة عام 1928، فانتهج الكتابة الساخرة حيث يعتبر رائدا من روادها في مصر والعالم العربي، فعمل في بداية حياته في عدة جرائد صغيرة كانت تصدر من شارع محمد علي ثم انتقل إلى مجلة (كشكول)، التي كان يترأس تحريرها الأستاذ مأمون الشناوي، فاعتبره السعدني معلمه الأول، فأثر على مسيرة حياته بعد ذلك حيث شارك في تأسيس الكثير من الصحف والمجلات داخل مصر وخارجها، وعمل في جريدة الجمهورية التي أصدرها مجلس قيادة الثورة والذي ترأس تحريرها الأستاذ كامل الشناوي، وكان السادات رئيساً لمجلس إدارتها والذي أنهى خدمته فيها بعد اتهامه بالشيوعية، ترأس السعدني تحرير مجلة صباح الخير، وعمل في دار الهلال، وروز اليوسف وأصدر مجلة هزلية مع رسام الكاركتير «طوغان» ولكنها أغلقت بعد فترة قصيرة،كان للسعدني صالون أسبوعي يلتقي فيه بالشباب والكتاب على نهر النيل، وقدم برنامجاً تلفزيونياً للتلفزيون المصري يحكي انه اقترب فيه من الشعب ونقل معاناته، من أشهر مؤلفاته «ملاعيب الولد الشقي، قهوة كتكوت،رحلة ابن عطوطة، أمريكا يا ويكا، مصر من تاني..وغيرها»، اعتزل السعدني الكتابة والحياة العامة عام 2006 بسبب معاناته مع المرض، حتى توفي يوم الثلاثاء الماضي 4 مايو 2010 عن عمر يناهز 82 عاماً قبض فيها على الجمرة الساخرة التي كانت بمثابة الرعب المنتظر لكل فاسد أراد التهام هذا الشعب،أو التخلي عن مبادئه... سنظل نسخر معك يا عم محمود من هذا الواقع لنستقبل ألمه بابتسامة موجعة... وداعاً أيها الولد الشقي. محمد سامي البوهي