لما كانت «صناعة نيفاشا» في مستنقعاتها الأولى، تُواجَه بمصاعب كبيرة، نهض أحد الإخوة الجنوبيين يومئذ، ليلقي على القوم درساً بليغاً، فقال لهم «إن السلام السيء خير ألف مرة من الحرب الجيدة»، وربما كانت هذه العبارة الذهبية بمثابة حافز كبير، ساعد أطراف النزاع على اختراق تفاصيل الاتفاقية. وقديماً قيل «إن الشيطان يكمن في التفاصيل»، ولا أدري إن كان هذا الفيلسوف الجنوبي هو نفسه من أطلق تلك العبارة العبقرية، أم فيلسوف آخر، أعني العبارة التي تقول، «نحن الجنوبيون قد تمنينا دائماً للسودان الجلوس على مقعد أفضل الأفارقة، لكن السودان في المقابل قد استمرأ الجلوس على مقعد أسوأ العرب»، والإشارة هنا إلى ارتباك هوية السودان بين الأفرقة والعروبة، أو هي بالأحرى محاولة بعضهم إرباكنا بهذه المعادلة، برغم أن السودان كان ولا يزال بمثابة الجسر السلس لعبور أفريقيا الغربية إلى الجزيرة العربية. وفي المقابل مثَّل السودان معبراً تاريخياً هائلاً لعبور النور والضياء من جزيرة الأنبياء إلى مجاهل أفريقيا، ويصلح للسودان مصطلح «دولة أفريقية مسلمة»، وليس للسودانيين وطن بديل يمكن أن يهجَّروا إليه، على أن فلسفة مشروع «السودان الجديد» تسعى إلى ترسيخ «أفرقة السودان»، على أن يحمل بعض العرب والمستعربة حقائبهم ويعودوا من حيث أتوا، وأنا شخصياً لا أعلم وطناً للسودانيين غير السودان، ليست هنالك جهة يمكن أن يهجًّر إليها السودانيون، وعليه لا بد أن نحتمل بعضنا، ومن ثم نذهب إلى صناعة «مُشَكَّل جميل» من هذا التباين الإثني والجهوي.. والله أعلم. وعلى طريقة شعار «الوحدة السيئة خير من الحرب الجيدة»، رأيت أن أستنسخ شعاراً آخر، ربما يصلح للمرحلة المقبلة، مرحلة تقرير المصير، وهو شعار «الانفصال الجيد خير من الوحدة السيئة»، بمعنى إذا كنا سنواجه أعباء وحدة أبطالها وصناعها السيدان باقان أموم وياسر سعيد عرمان؛ فإننا في هذه الحالة سنبحث عن خيار «الانفصال الجيد»، الذي هو الدولتان المتجاورتان الصديقتان، وسوف لن نحتمل إلى ما لا نهاية هذين الرجلين واستفزازاتهما، وأحياناً يجتاحك شعور، لو أن هذا الانفصال سيجعل السيد باقان أموم يرحل من مقرن النيلين إلى جوبا، أو لو أنه لم يفعل إلا ذلك؛ لكفاه ذلك إنجازاً باهراً وكبيراً. لتعلموا أيها السادة الكرام، لن تكون هنالك وحدة جاذبة في وجود هذين الرجلين، ولو حدثت «حالة انفصام» بين شعبي الجنوب والشمال؛ فسيكون سببها «ثقافة السودان الجديد»، ولا بأس أن أذكركم ببعض تصريحات الرجلين الأخيرة، قال أحدهما «حال الانفصال لن نترك المؤتمر الوطني ينفرد بحكم الشمال»!.. تصوروا معي كمية الاستفزازات والتحريضات التي تحملها هذه العبارة، فهذه «الثأرات والغبائن» التي ينوء بحملها مشروع السودان الجديد؛ لن تفضي إلى وحدة، وإن أفضت إلى وحدة فإنها يومئذ ستكون «وحدة مشوهة»، وربما تذكرون تلك التصريحات المذهلة التي قال بها يوماً السيد باقان أموم يوم أن كان وزيراً لمجلس الوزراء، قال «إن دولة السودان فاسدة وفاشلة»، وأجزم صادقاً والحديث لمؤسسة الملاذات، الجناح الفكري لو منح السودانيون الشماليون تحت تأثير مثل هذه العبارات، حق تقرير مصيرهم؛ لاختاروا مباشرة الانفصال، ولا شيء غير الانفصال، لأن الأمر في مثل هذه الحالات سيكون أمر كرامة وشرف، ورد اعتبار للسودان الجديد، والأصيل، الذي يود بعضهم محوه من الوجود. لن أضمن لكم وحدة في ظل «النزيف اليومي» لهذه الاستفزازات من قبل السيدين «فاقان وعرمان»، ستكون الوحدة طاردة ومطاردة، لو كان «هذا العنوان الخطأ» هو عنوان الجنوب الكبير.