صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    مشار وكباشي يبحثان قضايا الاستقرار والسلام    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    (تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الأمم المتحدة: آلاف اللاجئين السودانيين مازالو يعبرون الحدود يومياً    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وشائج في نسيج الوحدة الجاذبة (1)
نشر في الأهرام اليوم يوم 24 - 05 - 2010

هذيان كثيف روجت له وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية تحت اسم المسيرة المليونية، كان ذلك في العام1984م من القرن المنصرم بعد أن تم تحويل الرئيس القائد جعفر محمد نميري إلى إمام للمسلمين، وكان قد أسس لهذا التحول بإعلان قوانين سبتمبر 1983، كان ذلك الهذيان الكثيف، هتافات، صيحات تخلق تماسها الموسوس مع تجليات الدجل، تصل تلك الهتافات إلى آذان الحضور داخل مسرح قصر الشباب والأطفال، عربات اللواري محتشدة بفلول الهوس، طبول وزمّارين، طرق مبتكرة في تكثيف الاستلاب الديني، كان وقتها مسرح قصر الشباب مزحوما بتجهيزات مشاريع التخرج في قسم المسرح في المعهد العالي للموسيقي و المسرح عروض الدبلوم.
صديقي (السماني لوال أرو ماج) أحد خريجي هذه الدفعة كان مهموماً بتفاصيل عرضه المميزة (مأساة يرول) الذي كتبه بشاعرية شفيفة الأستاذ الخاتم عبد الله، وقد بدأت ملامح العرض تتضح وكانت كل العروض في مراحلها النهائية ومسرحية (مأساة يرول) تدور أحداثها حول أسطورة من جنوب السودان تقول إن بحيرة (يرول) قد جفت، وكي تعود إليها حيويتها وحياتها التي هي حياة المنطقة لابد أن يقدم الاهالي أجمل الفتيات كقربان، وذلك بذبحها، وأجمل الفتيات هي (يرول). هذه الأسطورة مشتركة بين نوبة الشمال وجنوب السودان ويوغندا، وقد أهداني الكاتب النوبي المصري (حجاج ادول) روايته (الكشر) وهي رواية تدور حول أسطورة عروس النيل. الفرق أن (يرول) الفتاة تذبح كي يرحل الجفاف و في رواية (الكشر) تقدم الفتاة الجميلة كقربان كي يرحل الطوفان عن المنطقة، وأما بالنسبة ليوغندا فتكاد تكون هي نفس الأسطورة، إذ أن الاسم يوغندا هو اسم فتاة جميلة قدمت كقربان كي يرحل الجفاف عن المنطقة، وسميت يوغندا على اسم هذه الفتاة.. قرأت ذلك في قصة قصيرة لكاتب يوغندي أضاعت ذاكرتي اسمه، والقصة بعنوان (يوغندي) استلهم فيها الكاتب ذلك البعد الأسطوري وبتوظيف حديث.
الدخول إلى عوالم الفنان المسرحي (السماني لوال) يبدأ من السماني لوال، فهو صاحب ملامح واضحة.. إنها ملامح لا نملك أمامها إلا الرهان على المتعة.. يحدثني صديقي السماني لوال قائلاً: (السماني لوال إسمان يخصّاني، ووالدي هو (أرو ماج)، وقد تلحظ على الفور أثر الازدواجية في الشخصية الإفريقية من خلال الأسماء، هذه الازدواجية ناتجة عن الصراع الحضاري ما بين الوافد والمحلي، فالوافد بسلطته استطاع أن يفرض وجوده بينما قاوم المحلي باستماتة وأخيراً حدث نوع من الاتفاق السلمي فبقي الاثنان معاً جنباً إلى جنب في الشخصية الإفريقية، (السماني) هذا أحبه على طريقتي الخاصة ولي معه تاريخ وذكريات حميمة تعود إلى زمن الطفولة بالجنوب في فترة الستينات، تلك الفترة الصاخبة في تاريخ الجنوب كله، غير أن (لوال) يظل عندي الأكثر تجذراً في عروق الزمن حيث يسكن الأجداد والآباء الأولون، (لوال) نوع من العصافير الصغيرة وهي جميلة الشكل صغيرة الحجم وقد يستهوى الغريب والمتعجل للخلاصات بعدها الجمالي الفنتازي، غير أن الذهنية الإفريقية التركيبية التي تزاوج بين المتناقضات في الحياة تجعل ل (لوال) الجميل هذا بعداً آخر، وعصافير (لوال) هذي رغم جمالها رمز للقوة والخطر، فهي تسير في جماعات هادرة تنزل على الزرع فتحيله إلى عدم. لوال إذن هو رمز للقوة والمنعة، وخطره في كثرته، أي في حالته الجماعية، في الفعل المشترك، هذا هو الأصل، فالدينكا لا يحبذون إطلاق الأسماء الموحية بالدعة والجمال الساكن للذكور، فتلك شيمة الإناث، لذلك ينزعون عن الثور الزاهي الألوان، الجميل المنظر، والذي يخصص عادة للتغني وتنظيم الشعر، ينزعون عنه ذكورته بخصيِه ليعبر عن الجمال المطلق، اللون وتشكله مصدر أساسي من مصادر المعرفة الجمالية لدى الدينكا، وأفضل اللوحات التشكيلية لديهم هي تلك التي تكون مادتها من اللونين الأبيض والأسود ولا يحبون لوحة تجمع بين الأبيض والأحمر على سبيل المثال، لذلك يكرهون الإنسان ذا الابتسامة (الحمراء)، هكذا يقولون، ويقولون (إن الابتسامة محرقة) والابتسامة الحارقة هي تلك التي خلفيتها حمراء، فاللثة الحمراء غير محببة لدى الدينكا لأنها تشبه الجمر وتخلق خلفية مشوشة للناظر وتقلل من جمال وبياض الأسنان، غير أن الابتسامة الجميلة هي التي تكون على خلفية سمراء أو سوداء فتبدو الأسنان أكثر جمالاً، وإن كانت غير ذلك.. والأحباش أيضاً يبدو أنهم يشاركون الدينكا في الذوق الجمالي ولذلك تجدهم يسودون اللثة الحمراء بمواد خاصة لتبدو اللثة أقل حمرة (سمراء) فتزداد الابتسامة جمالاً وجاذبية.
عصافير (لوال) صغيرة الحجم، سوداء المناقير، صفراء الأجنحة، رمادية الظهور، لذلك هي محببة لدى الدينكا، أخذت الاسم (لوال) عن جدي الأكبر الذي أخذه بدوره عن جده الأكبر، غير أن جدي كان أكثر احتفالاً بي على غير العادة، ورغب في أن يورثني حياته ويحيا من خلالي.. الأجداد في المفهوم الأفريقي يعيشون من خلال الأبناء والأحفاد، حدث ذلك قبيل ميلادي بشهر، كان ذلك حين زار جدي عمي في المنام ذات ليلة (وهو لوال أيضاً) وأمر الجد بإبلاغ قرار الأجداد بأن ذلك الجنين الذي سيولد عما قريب هو المختار من الأبناء وقد منحناه اسمنا (لوال) ولذلك يجب ذبح خروف أبيض صباح الغد على الفور كرامة وبركة، تم ذلك على الفور في اليوم التإلى دون إبطاء أو تردد وأبلغت والدتي بقرار الأجداد، كانت حين ذاك في قريتها التي تبعد عن قرية والدي بنحو عشرة أميال إلى الجنوب، إذ أن من عادة الدينكا أن تضع الفتاة مولودها الأول في بيت أبيها، وهكذا صرت لوالاً قبل أن أولد بشهر، وعند ميلادي لم يكن هنالك فرح تبقى لأنني رغماً عني تفشى خبري، وهكذا ضاعت فرصة الإدهاش واللاتوقع الطفولي، ليس هذا فحسب بل اضطروا إلى بتر أصبعي السادس في الكف الأيسر، حتى لا يحدث تعارض بين الرؤية المقدسة وظاهرة (الخلقة)، فلولا هذه الرؤية المبكرة لسموني حسب العادة (أشيك) الذي يطلق على الطفل ذي العاهة أو زيادة في الأطراف عند ميلاده، و(أشيك) يعني (مخلقن)، والخالق عند الدينكا هو (دوشيك). نزعوا عني أصبعي السادس لاكون (لوال)، لأن الرؤية سبقت وجودي، كان ذلك في أواخر 1958 بقرية (ابانق).. انتقلت أسرتي الى (منقلا) بالإستوائية في أواسط 1959م سعياً وراء الكلأ الحسن وطمعاً في مراعي الإستوائية الخصبة، هكذا نشأت في بلاد (الباريا) و(المنداري)، ارتويت بثقافتهم وعاداتهم فصرت استوائياً (بارياوي) الثقافة، (دينكاوي) الأصل.)
في (مأساة يرول) تقف السلطة الدينية وبصلف تجاه تنفيذ ذبح الحسناء (يرول) وتقديمها كقربان، وهذه السلطة الدينية (الكجور) تتحرك بدوافع شخصية جداً، ويتهافت الأهالي على تنفيذ ذبح (يرول) كي تعود المياه إلى البحيرة وتعود الحياة إلى مجاريها، وفعلا يتم تنفيذ ذلك، ولكن (الكجور) بعد أن يحقق بذلك أغراضه الشخصية وبعد أن طالبه الشيوخ بعد ذبح (يرول) بالماء (نريد الماء، مهر الفداء) يتهكم (الكجور) من ذلك الطلب ويضحك ساخراً ويرفع كف يده بأصبع يقول (طظ) و ينتهي العرض بتلك النهاية وهي نهاية اختارها العرض ولم يخترها النص المكتوب، وكان (السماني لوال) مصراً على أن تنزل موسيقى السلام الجمهوري بعد أن يشير (الكجور) بأصبعه معلناً معني (طظ)، وهنا بدأت المشكلة بين الأساتذة المشرفين على عروض الدبلوم وبين المخرج الممتحن (السماني لوال) وأخذ هذا التشابك منحى آخر اقترب من الوسواس، إذ بدأنا نسمع أن أفراداً من الامن القومي حضروا لمشاهدة بروفات هذه المسرحية وكلفني أستاذنا الكبير (فتح الرحمن عبد العزيز) بإقناع (السماني لوال) كي يتخلى عن السلام الجمهوري حفاظاً على العرض، وكنت أرى أن المقولة الإخراجية ل (السماني لوال) مشبعة ويمكنها أن تصل للمشاهد بدون موسيقى السلام الجمهوري.
في ظهيرة ذلك اليوم، وبعد أن انتهت بروفة (مأساة يرول) أخذت صديقي السماني لوال جانباً وبدأت أناقشه في أمر السلام الجمهوري.
{ (منقلا مدينة صغيرة جميلة ترقد على يمين النيل،(بحر الجبل)، شاخت منقلا وضمرت وتراجع مجدها وسطوتها، كانت ذات مرة عاصمة الاستوائية، كانت شوارعها مرصوفة بالأحجار الصغيرة الملساء، لم يتبق من مجدها سوى بعض الأطلال الموزعة بين الأشجار والحشائش وأعمدة التلفون المنتصبة بين الأحراش شاهدة على مجد المدينة المحتضرة وحدودها التي تراجعت إلى أقل من ثلاثة أميال مربعة، كنا نتسلقها - الاعمدة - فنطل على المدينة ومزارعها ومراحاتها الموزعة على أطرافها، فنبدو كمن يحلقون فوق المدينة.
شكل الدينكا بعداً ثقافياً متميزاً في منقلا أضفى على المنطقة ثراء جميلاً وقوة اقتصادية، كان (الجلابة) التجار الشماليون بأزيائهم المميزة والجالية الإغريقية ومتاجرهم، مركز إشعاع وحلقة وصل بين الشمال والجنوب، الراديو كان دهشتي الكبيرة، وقتذاك كانت (ام درمان) أكثر حضوراً وتمدناً منها اليوم إذ كنا نسمعها في كل الأوقات، لا أذكر وقتاً لم يكن الراديو يتكلم فيه أو يضحك أو يحاضر أو يغني أو يمثل، لم أكن استوعب كيف يمكن لهذا الصندوق العجيب أن يحشد في أحشائه كل هذا العالم، عندما كانت والدتي تصحبني إلى السوق وغالباً ما كنت أذهب معها لسماع الراديو في متاجر الجلابة، كنت أقف أمام الراديو مأخوذاً وأسأل والدتي عن هذا الشيء الذي لا يصمت لتجيبني بأنه (الورقة) فتزداد حيرتي غير مستوعب للعلاقة بين الورقة وهذا الصندوق، إذ لم يكن جسمه من الورق بل من الخشب أو شيء ما لابد أنه صلب.. كانت والدتي نفسها غير قادرة على استنطاق كنهه لكنها كانت تحيل الأمر كله إلى العلم، فالعلم مصدر العجائب، وأظنها كانت بذلك تحثني على الانكباب في دروسي لأتمكن يوماً ما من صنع هذا الشيء، كانت تعول علىّ الكثير.. تعرفت على فنون الشمال من خلال الراديو، حقيقة نمَت بيني وبينه صداقة وحب جارف، عرفت عبره الفنان ابراهيم عوض، ابراهيم الكاشف، محمد وردي، شرحبيل أحمد، عثمان حسين.. الخ، غير أن الفن الشعبي (الحقيبة) كان أكثر ما يستهويني بآلاته الإيقاعية العجيبة.. كان صوت (الرق) أكثر ما يجذبني، كان يطربني كثيراً رنينه فأغيب في خيال جامح متخيلاً شكله وكنهه وطريقة عزفه، هل يشبه آلاتنا الإيقاعية الجنوبية؟، أهو كالنقارة في شكلة؟ وكثيراً ما حاولت تقليد نقراته على نقارتنا الصغيرة ساعة الرقص الطفولي الليلي في ميدان الحي، ولكن دون جدوى، لم أكن احصل على نفس النغمات، كان الصوت يأتيني أكثر رخامة وغلظة فازداد حيرة. (نيكولا) الإغريقي صاحب العمارة الوحيدة في مدينتنا وزوجته البيضاء كزبد اللبن وذلك الشيء العجيب الذي تمضغه طوال الوقت دون أن تبلعه، كنت أجلس إلى جوار والدتي في مجمع اللبن وأخرج رأسي من بين ثوبها وأسمر عيناي في خفاء على تلك المرأة البيضاء الأنيقة بثيابها النظيفة الجميلة وهي جالسة على دكة عالية تتوسط نساء الدينكا وتخرج من محفظتها ذلك الشيء السحري الذي يكشف اللبن المغشوش، كانت تعمل في صمت وفمها المحمر مشغول بذلك الشيء الذي لا تبلعه، ربما كانت هذه طريقتهم في الأكل، يا لها من طريقة غريبة، لم لا يبلعون طعامهم، من الأفضل أن يأتي المرء على طعامه دفعة واحدة ثم ينكب بعد ذلك على عمله، هذه هي طريقتنا في الأكل، ثم ألا تخجل هذه المرأة من الأكل بهذه الطريقة أمام الأغراب وفي مكان عام طوال الوقت هكذا، والدتي على كل حال لا تفعل ذلك، إني أفضل أسلوبنا في الأكل، لم تكن عيونها الزرقاء تعجبني، إذ كيف تكون عيون البشر زرقاء هكذا كعيون القطط، كانت تخيفني بعيونها الزرقاء هذي. (حنان) ابنة (مختار) التاجر الجلابي جاءت ذات مرة وهي تمضغ شيئاً ما في فمها، كانت تفعل ذلك داخل الفصل كما تفعل الإغريقية البيضاء، كانت تصدر فرقعات صغيرة من فمها بين كل حين، انتبه الأستاذ لذلك فزجرها وأمرها باخراجه، فعلت (حنان) ذلك في صمت وخوف.. كنت أراقب الأمر في صمت وعن كثب، فهي كانت تجلس بجواري من اليمين، كان الشيء عبارة عن قطعة مطاطية صغيرة بيضاء اللون، عرفت اسمه من الأستاذ بأنه (اللبان)، وعلمت بعد ذلك أنه ليس أكلاً بل شيء يمضغ وكفى.
(كنّا، أنا وأمي، قد عقدنا اتفاقاً سرياً ينص على أن أرافقها إلى السوق عندما تأخذ اللبن إلى المجمع لأنها لا تعرف العربية، فكثيراً ما كان التجار ومنهم (نيكولا) الاغريقي يحتالون على نساء الدينكا في أسعار اللبن، كن لا يفهمن العربية ولا يميزن بين النقود جيداً، كنت أترجم حوار ولدتي مع تجار اللبن، كنت أجيد العربية التي تعلمتها من الخلوة وبالمقابل تعطيني والدتي تلك (التعريفة) الزائدة من أجل الترحيل فأشتري بها بلحاً من دكان (مختار)، كنت أطلق على البلح اسم (لالوب العرب) إذ كان يشبه (اللالوب) كثيراً، لكن طعمه حلو، لذلك كان يستهويني كثيراً، وكنت أستغرب كيف يمتاز (لالوب العرب) بهذه الحلاوة عن لالوبنا، لابد أنهم يضعون فيه السكر حتى يرتفع سعره.)
(كنا نقف أمام باب المسرح الجانبي، أثناء حديثنا لاحظ (لوال) وجود شاب لا نعرفه، فقطع حديثه معي وقادني إلى النافورة أمام مدخل قصر الشباب و بدأ يتحدث، ولكنه لاحظ ان ذلك الشاب قد جاء خلفنا، فقطع حديثه وقادني مرة أخرى إلى زقاق بين الصالة الرياضية والمكاتب ولكن ذلك الشاب كان وراءنا أيضا، وتلتمع من (السماني) العيون ويقودني إلى البوفيه، ولكن ها هو الشاب يأتي خلفنا، وحينها همس لي (السماني) متوتراً: (ملاحظ يا يحيي؟)
وقادني إلى الطابق الثاني فوق مبني المسرح، ولكن لا زال ذلك الشاب يتبعنا، وهنا تركنا الطابق الثاني، ولذنا بمكتب الصديق الأستاذ (محمدعبد الرحيم قرني) الذي كان وقتها يدير قسم الدراما بقصر الشباب، دخلنا المكتب ولم نقفل خلفنا باب المكتب، ما كدنا نبدأ النقاش حتي ظهر ذلك الشاب أمام الباب وهنا انفعل (السماني لوال) واقترب من ذلك الشاب ماداً إليه يديه قائلا: (يا هو انا السماني لوال، اقبضني، هاك اقبض)
{ جفلت النظرات من ذلك الشاب و(لوال) مستمر في انفعاله محيلاً ذلك الشاب إلى رجل أمن استنادا على ذلك الوسواس حول مسرحيته، وقفت أنا بين (لوال) المنفعل إلى درجة الهياج وبين الشاب (المخلوع) والواجم تماما.. هدأ (قرني) (لوال) وأبعده عن ذلك الشاب الذي سألته: (انت ليه متابعنا؟)
- (انا كنت عايز اتكلم مع السماني)
- (ليه؟)
- (أنا حضرت بروفتين للمسرحية عجبتني وكنت عايز اناقشو بس، أنا معجب بالشغل ده)
- (انت شغال وين؟)
- (أنا طالب في الفرع، وبعدين انا مهتم بالمسرح، أنا في جمعية المسرح بالجامعة)
{ وضحكنا وزال ضباب الشك من عيون (السماني لوال) وبعدها أصبح ذلك الشاب صديقا لنا، وبعد ذلك استطعت أن أصل مع (السماني لوال) إلى اتفاق فني حول التخلي عن موسيقي السلام الجمهوري في نهاية العرض، وقد كان، ولم يفقد العرض مقولته الإخراجية.
{ بعد نجاح هذا العرض و حصول (السماني لوال) على جائزة
أفضل مخرج ذلك العام في المسابقة التي نظمتها جريدة الأيام واستطلعت فيها آراء الجمهور، كتب أحد المهووسين الموسوسين، وللأسف هو خريج قسم المسرح بالمعهد العالي للموسيقي والمسرح، وقد ابتلانا الله به في تسعينات الانقاذ حين شغل منصب إدارة الإنتاج الدرامي بالتلفزيون، كتب في جريدة (ألوان) تحت عنوان عريض عن عروض دبلوم ذلك العام:
(يبدو أن المسيرة المليونية قد أفزعت الكثير من الفئران)
ومن كلمة فئران هذه يمكنني أن أجزم أن المسيرة المليونية قد أتخمت ومن ذلك الزمن وحتى الان الكثير من القطط السمان.
{ ذكريات الطفولة والمدرسة متداخلة وتشكل سلسلة مترابطة.. في منقلا (المدرسة) كنت أحد اصغر أربعة تلاميذ، لأنهم عندما أعادوا افتتاح المدارس بالجنوب في 1968م بعد طول إغلاق بسبب الحرب، كانوا يعطون الأولوية لاولئك الأطفال الذين على وشك تجاوز سن الابتدائية وكان على الأطفال الأصغر سناً الحضور في العام التالي، كنت في السابعة وقتذاك وكدت أفقد فرصتي ذلك العام 1967م بسبب صغر السن كغيري من أبناء العامة الصغار، غير أني اطلقت العنان لكل ملكاتي التي اكتسبتها من الخلوة وقاتلت حتى نلت التسجيل في سني تماماً.
{ بدأت الحكاية ذات صباح باكر عندما صحبني عمي (كور ماج) الى المدرسة للتسجيل، على العتبة الطويلة الممتدة امام مكتب الناظر، بدأ عمي الذي لا يعرف العربية سوى بضعة كلمات وقال: (ياحكومة ولد بتاعي.. ده مدرسة) ضحك الاستاذان، (تعال بكرة)، قال الناظر ذلك ورسم في الهواء قوساً كبيراً يمتد من المشرق إلى المغرب لإعطاء الاحساس بالعام القادم، ثم أردف الوكيل قائلاً للمدير: (إنه لا يزال صغيراً جداً وهؤلاء الصغار متعبون، فليأت في العام القادم)، فهمت حديثه جيداً، فقد كنت أجيد العربية، أخذت زمام المبادرة من عمي الأعجم وتوليت أمري بنفسي، قلت في تحد واثق: (لا يا أستاذ أنا ما بتعب الناس، أنا بعرف عربي وحساب ودين وأعمال رسم كمان)، صمت الأستاذان وركزا نظراتهما نحوي ونسيا على الفور عمي الذي لم يدر بعد ذلك ماذا كان يجري، قال المدير منحنياً نحوي: (ما اسمك ياشاطر؟)
- (السماني لول ارو)
- (قلت بتعرف تقرأ عربي كويس؟)
- (ايوه.. وبعرف حساب ودين وأعمال كمان)
- (أديك كتاب مطالعة بتقدر تقراه؟)
- (بقراهو بدون كتاب، من راسي، أنا حافظو)
- (طيب سمعنا)
- (الولد والجمل الجمل جمل الولد....)
- (خلاص.. خلاص.. سمعنا جدول واحد)
- (واحد في واحد بساوي واحد.. واحد في إتنين بساوي إتنين.. واحد في......)
- (خلاص اقرأ سورة الحمدو)
- (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك......)
- (خلاص.. خلاص ياشاطر)
ثم ربّتا على رأسي وتم تسجيلي في الصف الأول على الفور، كنت رابع أصغر طفل، كان راشد ابن مدير المدرسة نفسه ورابح ابن الحكيم والفريد ابن مدير الغابات ثم شخصي نجلس في الصف الأمامي، اجتاز الثلاثة أمر التسجيل بقوة وضعهم الطبقي، أما أنا فبفصاحتي، صرنا بعد ذلك أسعد أصدقاء وعانينا سوياً من بطش التلاميذ الكبار)
{ في فبراير من العام 1994م ورمضان قد انصرمت منه عشرة أيام تقريبا قطع التلفزيون المسلسل المصري (النوه) الذي كتبه الأستاذ (أسامة انور عكاشة) وإخراج الاستاذ (محمد فاضل) ليعلن المذيع عن خطاب لرئيس الحمهورية يخص إعادة تقسم الولايات، ومن ثم اصبحت ولايات السودان بهذا التقسيم الجديد (26) ولاية وتبع ذلك التقسيم إجراءات أخرى مثل تعيين ولاة جدد ونقليات لعدد كبير من موظفي الدولة من ضمنهم صديقي السماني لوال الذي كان يعمل مخرجاً ومصمماً للرقصات بفرقة الفنون الشعبية وراقص متميز لرقصة (الكمبلا)، نُقل السماني لوال إلى مدينة (يامبيو), قابل السماني لوال السيد الأمين العام للهيئة القومية للثقافة والفنون الأستاذ الشاعر والكاتب المسرحي الخاتم عبدالله باحتجاج صارخ أوضح فيه أن (يامبيو) مدينة بعيدة المنال ومرتبكة تفاصيل الحياة فيها فكيف يمكن له أن يذهب إليها وأن يمارس فيها مهنته كمخرج و مصمم رقصات، تلك المهنة المشروطة حتما و تماما بالحياة، وأن أمر نقله إلى (يامبيو) يعني أن الدولة في الشمال لا تستطيع أن تتحمل بين موظفيها فناناً مسرحياً من أبناء الحنوب، فما كان من الاستاذ الخاتم عبدالله إلا أن كتب على خطاب نقل (السماني لوال) من الفنون الشعبية بأمدرمان إلى مدينة يامبيو هذه الجملة ذات الدلالة العميقة: (يُجمد نقل الاستاذ السماني لوال حتى يتم تحرير يامبيو)
{ كنت أشفق على (رجب) صاحب الغنم و(عجب) وعسله و(طلب) وجمله الأظلع في كتب المطالعة المدرسية، كانوا رغم الدراما الصاخبة التي تحركهم ويحركونها أشبه بعفاريت تقف على بانوراما عارية وفقيرة، كانوا يفتقرون إلى ثراء الموقع، بيئتهم الصحراوية كانت تخيفني وتضجرني، حيواناتهم، الحمير والجمال كانت تبدو لي قبيحة قياساً بحيواناتنا في الجنوب، كنت أعتقدهم يكذبون عندما يصورون أسداً أو نمراً أو حتى أرنباً في بيئة صحراوية فقيرة الأشجار والحشائش، كانت تلك الكتب كذابة بالنسبة لي، كنت أقول في سري: لم لا ينقلون بيئتنا الجميلة هذه؟ فهي الأكثر سحراً وصخباً، هكذا كان باطني يمور وأنا أقرأ كتب المطالعة، (محمود الكذاب) كان أكثر الشخصيات قرباً إلى نفسي، كنت أصدقه لأني مثله عانيت من هجمات النمر كثيراً، فكم مرة التهم رغماً عني أغنام أبي التي كنت أرعاها في العطلات، كان والدي كثيراً ما يلومني على الإهمال لأني لا أنتبه جيداً إلى الغنم التي أرعاها بل أتركها للنمر المتربص وألعب الكرة أو أصعد على تل صغير وأنشد أهزوجة مدرسية، كنت ولازلت أعلم جيداً ماذا يعني هجوم النمر، الذاكرة مليئة جداً بتضاريس وتخوم جميلة أتمنى أن أسجلها يوما ما).
{ هذا كولاج لمؤانسة مع الصديق والشريك الحميم الفنان المسرحي المتميز (السماني لوال) وهو نمنمة بين حواريتي معه في مشروع (النوافذ المفتوحة) والموسوم ب (السماني لوال ومسرح المراح) وبين نصوص كتبتها في (مفكرة الاحد) بجريدة الخرطوم نسخة القاهرة وبعض كتابات في مشروع (التداعيات) وأفعل ذلك متوسلاً وحالماً بسودان موحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.