لا شك أن كل عاقل في هذا البلد ينشد الاستقرار والنماء لهذا الوطن، ولا نشك في أن أي عاقل تهفو نفسه لأن تتفق كل القوى السودانية على برنامج واحد يحقق لنا آمال وتطلعات طالما حلمنا بها، فقد ظل السودان طوال فترة ما بعد الاستقلال تحكمه وتسيّر أموره حكومات مؤتلفة، ما عدا حكومة الأزهري الأولى والتي انفرد فيها الحزب الوطني الاتحادي بتشكيل الحكومة بعد أن حاز على أغلبية مريحة في أول انتخابات أُجريت في البلاد. ولكن ما توالت بعد ذلك من حكومات كلها كانت مؤتلفة ظاهرياً وإن كانت في داخلها مختلفة إذ كانت مكونة من مجموعات شتى من التكنوقراط ومجموعات من أصحاب الولاءات السابقة قذفت بهم اتفاقات الائتلاف أو الموازنات الجهوية والقبلية، وموازنات أخرى متعددة الأشكال والألوان منها النقابية والطالبية والصداقات الخاصة، ولذلك كانت هذه الحكومات تتوافق مرة وتتنافر على الدوام، لأن القادمين الجدد إلاّ ما ندر يحلم كل منهم بتحقيق أهدافه الشخصية في المقام الأول، وربما يلتفت مرة أو لحظة إلى الحزب أو الجهة التي يحتلها، إما البرنامج المفترى عليه وإما المصلحة العامة، أما الوطن فلا أظن أن هذه القيم وهذه الأهداف كانت في يوم من الأيام في هوامش اهتمامات هؤلاء الإخوة، بل أن البعض منهم يعمل بغير قصد وأحياناً كثيرة عن قصد وتعمُّد وسبق اصرار على خلخلة وتحطيم ما شارك وساهم في بنيانه، «تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى»، بل أن البعض منهم كان يجاهر عندما يُسأل كيف تساهم وتشارك في حكم أو في نظام وأنت غير مقتنع به وغير راضٍ عنه؟، فتنهمر عليك سيول الاجابات، (عاوزين نحطم النظام من الداخل، عاوزين نلحق ونصلح ما يمكن اصلاحه، أو عاوزين نركب الموجهة خلونا ناكل عيش)!، ولذلك كانت هذه الحكومات دائماً وأبداً ضعيفة وهزيلة وغير متجانسة تتعدد فيها المذاهب والاتجاهات والولاءات، وينقصها دائماً الحماس والتفاني في خدمة الجماهير، خاصة وأن معظم الأحزاب المؤتلفة لا تقدِّم للائتلاف إلا رجال الصف الثاني أو الثالث، وممن تنقصهم الكفاءة ويضعف عندهم الولاء، وقد نلاحظ أن معظم هذه الائتلافات قد نجحت فيما أبطنت، فقد نجح الشيوعيون في زعزعة نظام عبود (حكومة نوفمبر) بعد أن شاركوا في مؤسساته ثم انقلبوا عليه في أكتوبر، كما نجحوا في اختراق نظام مايو وتم احتواءه بالكامل، حتى انقلب عليهم النظام ونكّل بهم في يوليو، ثم تكررت تجربة نميري مرة أخرى ومع الإسلاميين الذين استطاعوا أن يحوّلوا دفة الحكم من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، بل وصاغوا له القوانين الإسلامية حتى لحظة إعلان الشريعة ثم انتفضوا عليه في أبريل، ولنا في تجربة الإنقاذ الحالية العظة والعبرة مع الشريك المخالف.. خروج ودخول ومساومات ومناورات. والآن نسمع أن هناك إتجاهات هنا وهناك لتكوين حكومة قومية أو ائتلافية مع بعض الأحزاب، رغم أن بعضها قد أعلن صراحة بأنها لن تشارك في حكومة يتسرّب منها الوطن كما تتسرب المياه من بين الأصابع فهكذا يقولون وفي هذا الموقف أعجبني تعليق من مولانا محمد الحسن الميرغني في حوار له مع (الأهرام اليوم) إذ يقول مولانا: إن جوهر المشاركة في السلطة دائماً يرتكز على البرامج والقابلية السياسية للتنفيذ، والدور المشترك في القاطرة وهي خدمة الجماهير، ويعترف مولانا جزاه الله خيراً فيقول: إننا لا نستطيع ضمان قيام الوحدة التي نطالب بها في حالة مشاركتنا ولا يمكننا الضغط على المؤتمر الوطني في سياق تطبيق الأقوال بالأفعال. لله درك يا مولانا قول حكيم فعلاً!، فكيف يستطيع الحزب الاتحادي أن يضغط على المؤتمر الوطني لتمرير أجندة أو فرص توجه أو حتى مجرد فكرة.. فعلاً لن يستطيع أحد من أصحاب الائتلاف أن يفعل ذلك جهاراً نهاراً مع سيل الأغلبية الجارف. إننا لا نرفض الاتفاق ولا نرفض الائتلاف، ولكننا نرفض الائتلاف المبطن ونخشى على المؤتمر الوطني من التجارب السابقة ونخشى على البلاد من تكرار التجارب المريرة السابقة وقد بدأت ارهاصاتها فعلاً بمغازلة الحركة الشعبية مع الدلال والتيه الظاهر للعيان والتصريحات التي أصمت الآذان.