يحلو لصديقي الموظّف ببنك فيصل الإسلامي الأستاذ محي الدين أحمد البشير وهو سوداني معتّق «كامل الدسم» أن يُطلق على مدينة واو حاضرة ولاية غرب بحر الغزال (الجنة التي أخطأت طريقها إلى الأرض). فقد جاءها من عمق كردفان يسعى وقد أهمل تجارته وانشغل بالدعوة الإسلامية فكان يصر اصراراً على تحسين تجويدنا لقراءة القرآن الكريم.. عندما افتتحت محطة تلفزيون مدينة واو كنا حينها أطفالاً نشاهد المسلسلات المصرية بشغف وحضور ذهني كامل ونتابع المؤامرات التي تُحاك ضد رئيس الشركة والمجموعات التي تقاتل بعضها في مؤسسات الدولة وكيف يمارس الشباب الحب بالجلوس على شاطئ البحر في خضم هذه التعبئة الثقافية، إذ خرجت علينا بعثة منظمة الدعوة الإسلامية يقود العمل الشبابي فيها الأستاذ محمد سعيد عبد الفتاح، وقد علمتُ لاحقاً أنه شقيق الشهيد علي عبد الفتاح أمير الدبابين فجمعنا وأنشأ لنا فريق لكرة القدم وهو فريق الصحوة وشاهدنا عبر الفيديو فيلماً ل(خامس الخلفاء الراشدين) سيدنا عمر بن عبد العزيز فكانت نقطة التحوُّل الكبرى وتعلقت نفوسنا بالثريا وأصبحنا نعمل ونترقب الفتح الأكبر وبزوغ فجر دولة الإسلام وتعلمنا أن الأرض كلها لله وجعلت لنا مسجداً وطهوراً وأن الحدود هي من فعل أوروبا التي لا تريد لنا إلا أن نُسجن داخل خطوط وهمية تسمى مجازاً دول وعلينا أن نبلِّغ الدعوة إلى أقصى الأرض غير آبهين بما يعيبنا من رهق أو نصب أو فاقة.. كانت مدينة واو (الجنة التي أخطأت طريقها إلى الأرض) حاضرة في ذهني وأنا مشرف على عمل كُلِّفت به من قبل الشيخ عبد العاطي عبد الخير مدير إقليم السودان للوكالة الإسلامية للإغاثة وهي منظمة وطنية إنسانية غير حكومية كان ذلك بمعسكر للنازحين بمنطقة جبل أولياء 40 كلم جنوبالخرطوم يضم عدداً يربو على الخمسين ألف نازح دفعت بهم الحرب في جنوب السودان للاستقرار في هذه المخيّمات، سألت إحدى السيدات التي عرفتها من خلال لهجتها إنها تنتمي لقبائل «الفراتيت» وبالتحديد قبيلة «البلندة» وهي من القبائل المسالمة يحترفون الزراعة وصناعة المنتوجات الخشبية والبناء ويتواجدون بصورة لافتة في الخدمة المدنية ولقربهم من المستعمر الإنجليزي قلّ ما تجد منهم من يعتنق الديانة الإسلامية ولكنهم وديعون يحرصون على أداء الصلوات في الكنيسة، سألت السيدة عن أستاذي وناظر مدرسة واو «أ» الإبتدائية بنين «نتالي أُتو» فاندهشت السيدة وبعد بضع أيام التقيت الناظر «نتالي أُتو» بعد فراق دام سنوات عديدة فقد خلالها بصره وأنحنى ظهره وذكرته بالنشيد الذي كان يصر أن يقرأه التلاميذ في الطابور الصباحي: سوداننا سوداننا أرض الجدود والأبِ فيه وجدت مأكلي فيه وجدت مشربي سماؤه من فضة وأرضه من ذهبِ ونيله مبارك يجري بماء طيّبِ كنا نردد هذا النشيد ومعي أستاذي وناظر مدرستي ومسؤول الصف «نتالي أوتو» وجموع المستفيدين من حصة الإغاثة من النازحين يتابعون هذا المشهد بمتعة واهتمام. جالت بخاطري هذه الأحداث وغيرها من الأحداث التي صنعت وجداننا الوطني ورسّخت في دواخلنا معاني الوحدة والانتماء المجيد لبلد كبير ووطن (حدادي) وأنا أقرأ صباح مساء لأقلام تبنت في يوم من الأيام مشروع الدعوة إلى الله وإبلاغ رسالته وهي تنكص وتنفض يديها عن أي تدابير يمكن أن تقود السودان ليكون وطناً واحداً في سابقة لم نشهد لها مثيلاً إلا عند أتاتورك الذي حوّل مركز الخلافة الإسلامية إلى دويلة غريبة الوجه واللسان بدلاً من أنها كانت قبلة الأمة وعاصمة العالم الإسلامي. الأستاذ محي الدين أحمد البشير عندما أهمل التجارة وصار داعية أدرك المآلات السعيدة التي سيتمتع بها عند ربه لقاء امتهانه لمهنة الأنبياء وهي الدعوة إلى الله واضعاً نصب عينيه «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم» وهو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قد دخل هذه الجنة التي أخطأت طريقها إلى الأرض دون جواز سفر أو تأشيرة دخول ولم يذهب للسلطات المختصة لانشاء الخلاوى وإقامة حلقات التلاوة ودروس التجويد. فإن الأستاذ محمد سعيد عبد الفتاح لم يحتج لأجراءات معقدة لتوجيه مئات الشباب عبر شريط فيديو لإلتزام الجادة كتلك الاجراءات المعقدة التي احتاجها عند سفره ومكوثه في كمبالا العاصمة اليوغندية.. ربما انتقل ناظر مدرسة واو «أ» الإبتدائية الأستاذ «نتالي أُتو» إلى الدار الآخرة ولكنه لم يشارك في تقسيم السودان وكان ينظر إلينا جميعاً كتلاميذ سودانيين يعلمنا أبجديات الوطنية ويقرأ علينا كل صباح الأناشيد التي تمجِّد السودان وتُعلي من قدره ويستمع إلينا في طابور الصباح بنشوة ونحن ننشد: سوداننا سوداننا أرض الجدود والأب فيه وجدت مأكلي فيه وجدت مشربي سماؤه من فضة وأرضه من ذهب ونيله مبارك يجري بماء طيِّب إن الحركة الإسلامية التي استولت على السلطة في يونيو 1989م والحركة الشعبية لتحرير السودان التي حملت السلاح في العام 1983م ووقّعت على اتفاق سلام شامل في العام 2005م تقع عليهما المسؤولية التاريخية في انشطار السودان وتمذيقه المتوقع إلى دويلات وجزر معزولة عن بعضها، وسنظل نقاوم الانقسام والانفصال لأننا كشعب نحن الذين سنكتوي بنيران التشرذم والصدامات المتوقعة حال الانفصال لأن العقلية التي أوردتنا هذا المآل حتماً ستوقد للحرب ناراً.. سيدي رئيس البلاد المنتخب ..ماذا نقول لأبنائنا والأجيال التي تليهم، أعجزنا أن نقدم حلولاً لأزماتنا التي صنعناها بأيدينا؟، هل افتقر العقل السوداني لإطلاق مبادرة ذكية تعيدنا إلى صوابنا ونصنع دولة بحجم السودان تتساوى فيها الحقوق ونتقاسم فيها الواجبات؟ هل عجز مجمع الفقه الإسلامي الذي وجد مبرراً للتعامل مع القروض الربوية في أن يستنبط لنا الأحكام عن قرار صرف النبي صلى الله عليه وسلم لأموال غنائم غزوة حنين في الجعرانة حتى قال الناس إن محمد ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر؟ فلتسكت الأصوات التي ترفض صرف الدولة على المشروعات التي تحقق الوحدة الجاذبة. هل يعتقد أولئك الذين يدعون إلى الانفصال ويحرضون الناس على ذلك إنهم بمنجاة من السؤال يوم القيامة؟ وهل يعتقد أولئك الإخوة والذين نُكِن لهم التوقير «إنهم مانعتهم حصونهم» من الحدود التي ستشرف عليها الأممالمتحدة من أن يصيبهم سوء وتنام أعينهم ملء شواردها لأنهم تخلصوا من عبء ثقيل وهم عظيم؟ سيدي رئيس البلاد المنتخب.. أمضى بنا على بركة الله في تحقيق الوحدة مهما كان الثمن وأفرغ مافي وسعك، وأبذل كل الجهود فمن خلّفك شعب يحبك فلا تركن لقول العاجزين وما التوفيق إلا من عند الله ولا تنسى أن للاجتهاد عند الله أجر ويجد لك الشعب العذر. اللهم ألا بلغت فاشهد. أمير الرزيقات بالخرطوم