ليست هناك ضرورة ولا حاجة لأن يفارق الإنسان بلده وأهله وناسه ليعيش مغترباً في بلاد الله إلا إن كان يبحث عن السترة، لأن الغالبية العظمى من المغتربين تفرقوا في بلاد النفط وغيرها ليس بحثاً عن الثراء ولا رغد العيش من ذلك النوع الذي يجعل صاحبه يأكل الكافيار أو يتكئ على لحائف مدسوس فيها ريش النعام ولكن كل مسافر وهو يحمل في داخله أحلاما صغيرة تدغدغ خياله فهناك من سافر وهو يحلم بأن يدخر ما يجعله فقط يكمل نصف دينه لأن ظروفه في الداخل ستجعله (بايركس) بدرجة امتياز لو انه استكان لها وهناك من غادر وهو يحلم أن يكسر أوضة الطين لينصب محلها أخرى من الطوب الأحمر حتى لا تضطر أسرته أن تتكوم في ركن قصي من أقل (شكشاكة) أو مطيرة خريفية عابرة. وهناك من غادر حتى يكوِّن (تحويشة) معتبرة يعود بها إلى مدينته أو قريته ويبدأ مشروعاً صغيراً ربما يضع قدميه في بداية طريق راحة البال.. ولكن دعوني أقول إن معظم هذه القصص لا تتحقق سيناريوهاتها كما رسمها وكتبها أصحابها لأن الغربة ليست مصباً للنقود (نغرف) منه ونعود، فالغربة طاحونة لطحن من يدخل عالمها وربما لا يستفيق إلا بعد أن تتوقف عن الدوران به ليجد نفسه أشيب الشعر مثقلاً بأسرة والتزامات ومتطلبات الحصاد الذي جاء لقطف ثماره خاوية أشجاره على عروشها تشتكي الذبول والعطش وصاحبنا يشتكي من طول ليل الوحدة وحتى رحيل الطيف الذي كان يؤانسه. لكن المشكلة الحقيقية أن أسطورة المغترب لا زال البعض يصدقها ويعتقد أنه ممكن أن يرسل قائمة بمشغولات أو منقولات لأي مغترب فتصله بأسرع مما يتصور وكأنه قد طلبها من عفريت مصباح علاء الدين في الوقت الذي يعاني فيه المغتربون أشد لمعاناة أو لنقل أن معظمهم يلوك الصبر لكنه يتمسك بالكبرياء ويمسك بكلتا يديه على تلابيب الفرج لعله (يحن) عليه ويبدل حاله من حال إلى حال. على فكرة ما أكتبه ليس خيالات من بنات أفكاري ولكنها وقائع ومشاهدات وتفصيلات لقصص سمعنا عنها أو عايشناها لمن نعرفهم ويعرفوننا. إذ أنني أذكر أنني كنت في زيارة لمدينة دبي قبل عدة سنوات وجمعتني الصدفة بأخت كريمة ما إن علمت أني قادمة من الخرطوم (طازة) إلا وبدأت في سؤالي عن البلد وأحوالها وقلت لها إنتِ طولتي من السودان ولا شنو؟ فأخبرتني أنها لم تغادر دبي منذ عشر سنوات وعندما أبديت استغرابي لهذه الإقامة الطويلة وهي المملوءة بكل هذا الحنان والحنين أخبرتني أن الإقامة جبرية لأنها لسبب بسيط لا تستطيع أن توفر ثمن التذاكر لها ولأولادها بل أنها قالت لي «إنتِ ما عارفه يعني شنو الواحد يرجع السودان بعد هذه المدة والناس منتظره أن تشوفك على أحسن صورة وهيئة وكأن المغتربين وأبناءهم عارضو أزياء مفروض عليهم أن يتبختروا بأجمل الثياب وأغلاها غير الهدايا والعطايا». وللصدق ليست هذه أول قصة استمع لها وليست بالتأكيد الأخيرة مما يجعلني أشفق على هذه الشريحة التي تعاني ضغطاً نفسيا عجيباً وتتحمل التزامات فوق طاقتها ولا تجد من يرحمها طالما أنها تحمل ديباجة (مغترب) لذلك وبهذا الفهم أعتقد أنه يقع عبء كبير جداً على الدولة وعلى جهاز شؤون العاملين بالخارج أن يعيدوا دراسة أحوال المغتربين خاصة أولئك الراغبين في العودة ولا يجدون لذلك سبيلاً لأنهم (مكتَّفون) بالتزامات غالبها مادي تجاه المؤسسات التي يعملون بها وطالما أن هذا المغترب يحمل الجواز الأخضر فعلينا أن نبحث عنه أينما وجد لنفك كربته ونطلق قيده وبعدين نحدثهم عن العودة الطوعية. أنا شخصياً كنت قد تفاءلت كثيراً باختيار الدكتور كرار التهامي ليكون على رأس جهاز شؤون المغتربين لأنه واحد ممن عركتهم الغربة ومؤكد انه يعرف تماماً مكامن المعاناة التي يعيشها المغتربون لكن للأسف كل ما سمعناه يبدو أنه كان فورة اندروس بدليل أن الحال ظل على ما هو عليه ولم نسمع عن قرارات من النوع «الثوري» تصب في مصلحة المغترب الذي تلاحقه مرارة الاغتراب حتى ابناءه وهو يضطر أن يدفع لهم بالدولار واليورو في الجامعات لقاء درجات حذفت عنه لأنه اضطر للغربة حتى لا تحذف احلامهما من خارطة الممكن. في كل الاحوال فإن ملفات المغتربين بهمومهم ومشاكلهم يبدو أنها تزداد داخل حوش الجهاز حتى أن الكثيرين ممن كانوا في الكويت أيام الغزو العراقي جاءوني بالكثير المثير الخطر مما يؤكد انهم لم يستلموا كافة استحقاقتهم التي منحها لهم صندوق تعويضات الأممالمتحدة وبالضرورة لنا عودة. كلمة عزيزة تفاجأت عندما علمت أن علي مهدي هو الأمين العام لاتحاد الممثلين العرب وانه منشغل بتصريف أعباء مهام الهيئة الدولية للمسرح. وكلنا يعلم حال المسرح السوداني مما يجعلني اقترح ان نعينه سفيراً للعلاقات العامة وكده الفلاحة ولا بلاش!! كلمة أعز لا ادري سبباً للهجوم على برنامج (أغاني وأغاني) الذي منحه المشاهد شهادة تفوقه وجعل الحركة تقيف مواعيد بثه!