لست في مضمار السباق لإحصاء جرد الحساب السنوي للإنجازات والإخفاقات في الأداء العام للحكومة، فتلك مُهمّة الصحف والمُحرِّرين والمُحلِّلين، بيد أنّي مُنفعل بإجراء جَردٍ نوعي للعقل السياسي الذي يقود بوصلة الأداء العام للدولة وليس الحكومة. وهذا التّوصيف يَضم كُلّ الفَاعلين في المَشهد السِّياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. لعلّه من براعة الابتداء في القَول التّأكيد على غياب مشروع وطني جامعٍ للنّهضة يَعمل على تحشيد الطاقات في مُختلف مناحي الحياة، هذا فَضْلاً عن غياب أي مُكوِّن فكري واضح لمشروع هذه النهضة المُبتغاة. ولجأ العقل السِّياسي للتّحايل على مشروع النّهضة الوَطني واستبداله بمُفردات الاستقرار السِّياسي، لذا أصبحت أكبر مُنجزات هذا العقل السياسي هو نجاحه في تحقيق الاستقرار السياسي في مُحيطٍ إقليمي مُضطربٍ ومُتصدِّعٍ وأصبح السودان واحة الاستقرار الوحيدة في ظل مُحيطٍ موّارٍ بالتقلبات. وحقّق هذا الاستقرار السياسي شيئاً من الأمن والطمأنينة للمواطن نسبةً للقُوة النسبية لمُؤسّسات إنفاذ القانون وفعالية مركز السلطة واتخاذ القرار. وتمّت التضحية في هذا المضمار بهامش نسبي من الحُريات والحُقُوق لضرورات مرحليّة خوْف الانزلاق لحافة الفوضى إتعاظاً من تجارب الدول المُحيطة بالسُّودان نسبةً لهشاشة الظروف الراهنة ووجود مجموعات تحمل السلاح ضد الدولة. في المُقابل، فإنّ المُواطن ارتَضَى هذه المُعادلة التي ترتكز على تمتُّعه بهامشٍ نسبي من الحُريات السِّياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة شريطة ألاّ تمس عَصب الاستقرار السِّياسي في البلاد مُقابل الأمن والاستقرار السِّياسي وعصمة البلاد والعباد من الانزلاق في الفوضى مثلما يحدث الآن في سوريا وليبيا واليمن وجنوب السودان. البعض في المُقابل يُنادي بإطلاق الحُريات كاملةً غير منقوصة وإن أدت إلى تهديد الأمن الاجتماعي للبلاد؟ وهذا سيقود حَتماً الى إشعال النعرات العُنصرية التي تُهدِّد التماسك الاجتماعي والهوية الوطنية الجامعة. وتكشف النظريات الحديثة أنّ اتساع قاعدة التعليم وقيام الطبقة الوسطى والاقتصاد الحر سيؤدي حتماً إلى التحول الديمقراطي وإن غابت القيادة السِّياسيَّة عن إدارة هذا التغيير. في مُقابل هذه الحُريات النسبية والمُقيِّدة بالقانون، تم إطلاق وتحرير الاقتصاد ليتبع منهج اقتصاد السوق، الذي أدى إلى تكريس بُعدٍ رأسمالي على تكوين المجتمع. ونعى البعض على هذا التوجه نحو تحرير الاقتصاد وتبني اقتصاد السُّوق الى إفراز رأسماليةٍ مُتوحِّشةٍ لا تعير طبقات الفقراء اهتماماً. لكن الإرث الثقافي والاجتماعي القائم على التضامن بين الأُسر المُمتدة خفّف من غلواء هذه الرأسمالية وقصّرت برامج الدولة الاجتماعية لمحدودية الميزانية المُخصّصة لدعم الشرائح الفقيرة وتوفير الدعم الاجتماعي والصحي عن الوفاء بتلك الغاية على الوجه الأتم والمنشود. رغم اختلالات الاقتصاد والذي يُعتبر أضعف حلقات الحكم اليوم، إلاّ أنّه تمّ اصطناع طبقة وُسطى مُتنامية لا تزال تمثل أساس الاستقرار السياسي والاجتماعي ومُستودع القيم الثقافية، ولا شك أنّها تمثل أيضاً محور التغيير إذا أحسّت بخيانة أجندتها وفق أسس المقايضة التاريخية المسكوت عنها وهي رعاية مصالح هذه الطبقة وفتح أبواب العمل ورعاية التوجهات الحديثة والليبرالية النسبية وتقوية مفاصل السلطة والحصول على نسبة معقولة من ريع الدولة مقابل الاستقرار والشرعية السياسية. وتعارض الطبقة الوسطى كما سبق وأن أبنّا من قبل مشروع المُغامرات الثورية المنطلقة من الهامش وهي تشعل التمرد في وجه الدولة. ارتبط هذا المشروع أيضاً بوجود رؤية وإن كانت منكرة عن الاقتصاد السياسي كما قال الدكتور البريطاني فيرهوفن. وهو يعني توسيع استثمارات الدولة في المناطق المُستقرة وربطها بمشروعات الطاقة والمياه والزراعة والصناعات الغذائية والتحويلية. ويفيد هذا التوجه في الاقتصاد السياسي كتلاً بشرية هائلة ويُعيد إدماجها في كتلة الطبقة الوسطى الناهضة. أدرك العقل السياسي أنّ سياسة التقشف الاقتصادية مع ارتفاع معدلات البطالة والتضخم لن يقيل عثارها إلاّ فتح أبواب التعدين الأهلي الذي أدّى إلى زيادة إنتاج الذهب وأصبح المصدر الرئيس للعُملة الحُرة في السودان. لكن الأهم هو توظيف طاقات الشباب في نشاط اقتصادي منتجٍ رغم المخاطر بدلاً عن تكدس هؤلاء الشباب في المُدن الذي ربما يقود إلى تذمّر إذا انسد أُفق الاقتصاد عن استيعاب هذه الطاقات وزيادة نسبة البطالة في السودان. لأنّ الأهم بالطبع أيضاً هو اتساع طبقة القاعدة الشعبية المُستفيدة من هذه الثروة، إذ امتدت وسائل الحياة الحديثة إلى أرياف السُّودان البعيدة. أحد أركان هذا الاستقرار السياسي هو توسيع نسبة المُشاركة السِّياسيَّة في الحكم، فلأوّل مرّة يهتدي العقل السياسي الحاكم إلى حكمة مشاركة الهامش مُشاركة أصيلة في مفاصل السُّلطة والحكم وليست مُشاركة كوزموتية شكلية تحايلية. فأصبح الهامش الذي كان يشكو من الإهمال السياسي جُزءاً أصيلاً من تركيبة السلطة والحكم، وارتفعت في المُقابل شَكاوى خفيّة من بعض مُدن الوسط التي زَعمت تهميش دورها في السلطة رغم عراقة وجودها التاريخي في السلطة. أصبحت دارفور عضواً أصيلاً في النادي السياسي وتركيبة الحكم، وكذلك شرق السودان وكردفان الكبرى والنيل الأزرق. وانهارت بذلك شعارات تحكم الوسط النيلي في مقاليد السلطة والثروة في السودان. نجح العقل السِّياسي في إعادة هَندسة الواقع السُّلطوي من جديد من خلال توسيع قاعدة ونسبة المُشاركة واستقطاب طبقات وشرائح جديدة في تَوازنات السلطة، وإسناد أدوار حيوية في قضايا السياسة والاقتصاد والأمن والدفاع لمجموعات ناهضة أدت دورها المرسوم لها في الحفاظ على كيان الدولة والاستقرار السياسي بكفاءة عالية. إزاء شبكة التحالفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية حول مركز السلطة والتي خلقت ارتياحاً في مُعظم أقاليم وأرجاء السودان لاتساع المشاركة في كيكة السلطة، ظلّ العقل السياسي المُعارض يؤمن بإشعال ثورة الريف وأهل الهامش، وعندما خَابَ المسعى وَفَقَدَ البوصلة وقع في ارتهانات الحروب الإقليمية والبندقية المأجورة. رغم نجاعة وصفة توسيع قاعدة المُشاركة السّياسيّة، إلاّ أنّها صاحبتها إفرازات سالبة في بروز شبح المُحاصصات الإقليميّة والمناطقيّة والجهويّة. فشل الحراك السياسي المدني في صنع التغيير أيضاً، ليس لقوة وتماسك السُّلطة النسبي فحسب، بل لضعف المُعارضة واختلافها في تَحديد بَرامجها وأهدَافها وتَوحيد قيادتها. وحصرت أهدافها في إسقاط الحكم فقط دُون أن تُقدِّم برنامجاً بديلاً يخرج من أزمات الفشل التاريخي للنخبة السودانية. ولاعتمادها على القوة الصلبة وليس القوة الناعمة المُرتبطة بالمُثل والأفكار والبرامج الجاذبة والقوة الرمزية والمعنوية لأطروحات المُعارضة. وقعت الأطروحات الفكرية لجميع التيارات المُتصارعة في خطل التسييس الذي أضعف مضمونها ومردودها وسط النُّخب والجَماهير، إذ لم تُعد أطروحة المركز والهَامش وأزمة الهويّة والسودان الجديد وأزمة الحكم وفشل النخبة كافية لتحليل الأزمة الوطنية المَوروثة منذ الاستقلال. كما قلّ الاستقواء بالأجنبي وكذلك القوى الدولية التي كانت تُراهن على سقوط الحكم، لكن مع الانهيارات الإقليميّة والتصدعات المُمتدة في دول الجوار أصبح السودان هو واحة الاستقرار الوحيدة، كما فشلت تجربة السودان الجديد في جنوب السودان الذي انزلق إلى أتون حرب أهلية طاحنة على أُسس قبلية وجهوية واضحة. ولم تعد الشعارات الثورية تلهم أحداً بالتغيير. وأيقونات أيدولوجيا التغيير يتساقطون في وحل السياسة والتحالفات الخارجية مثل أوراق الخريف. أصبح المُجتمع الدولي زاهداً في دعم المُغامرات الثورية بعد أن كان سخياً ومُتحمِّساً في مُساندتها. وأصبح رهان القوى الدولية للتغيير الآن دعم منظمات المُجتمع المدني وفتح أبواب الإعلام وحرية التعبير، والرهان على الانتخابات الديمقراطية. رغم انتصارات العقل السياسي الذي نجح في الحفاظ على الاستقرار السياسي ومنع الانزلاق نحو الإفلاس والفوضى على أُسس من توسيع قاعدة المشاركة في السلطة مقابل غياب مشروع وطني طموح وجامع يعبر عن أُصول التّوجُّهات التاريخية، إلاّ أنّ هذا النجاح الذي يُعتبر مرحلياً بامتياز يُواجه أحد أبرز تحدياته التاريخية وهي إدارة التحولات والتغيير ونقل السُّلطة بطريقة سلميّة سَلسة لكسب المُستقبل بذات التماسك على أُسس ديمقراطية مَحضَة ممّا يعني كسب ولاءات الشرائح الحيوية في المُجتمع. وإن ظل رهان الطبقة الوسطى الناهضة هو تماسك واستقرار الدولة والشرعية السياسية مُقابل الحفاظ على مصالحها الطبقية وتحالفاتها المرحلية، فإنّها شريحة الشباب التي تمثل غالب القوة الحيّة في المُجتمع والتي تُشكِّل وجدانها وثقافتها خلال الثلاثين سنة الماضية تتطلّع الى انتقالات حداثوية جديدة تضمن لها كسب المُستقبل واقتصاد المعرفة والاندفاع في منظومة العولمة الثقافية والمعرفية والاقتصادية الجديدة، وهي بطبعها ليست طبقة صراعية كما يريد لها العقل السياسي المعارض ولكنها شريحة براغماتية بامتياز تريد أن تكون جُزءاً من المستقبل وليست صورة من صور الماضي الذهبية. إذ انتصر الذهن السياسي في الماضي بالحفاظ على تماسك الدولة ومؤسسات السلطة والمرونة وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، فإنّ فشله وانتصاره في الفترة القادمة مرهونٌ بإدارة التحولات والتغيير. والمقصود برهانات التّحولات والتّغيير ليس الأشخاص، بل البرامج والخُطط والسياسات والتوجهات، إذ ليس ثابتاً أن تكسب رهانات المُستقبل بذات الأدوات التي تم بها كسب المعارك المفصلية في الماضي.