كيف ومن يصنع التغيير؟. سؤال لا يُطرح ولا يُجاب عليه في الكتابات الصحافية مثل المقالات والمقابلات...الخ. فهذا التساؤل، يطرح في أمكنة أخرى، ويجاب عليه بالخطة وبرنامج العمل، وبنماذج الحراك العملي الملموس المجسد لكل ذلك. والأمكنة هذه، لا تقتصر فقط على الأحزاب والتنظيمات السياسية المختلفة، فهي أوسع من ذلك وأشد تنوعا، ما دمنا نتحلى بالخيال المستوحى من الواقع الملموس، ونستجيب لمتغيرات هذا الواقع في كل تفاصيله. وهكذا، الكتابات الصحافية ليس بمقدورها طرح مانفيستو لتغيير أو ثورة، ولا تقديم وصفات جاهزة لكيف يكون التغيير ومآلاته، حتى ولو زعمت ذلك، لأنها إن زعمت، سيكون شأنها شأن المنجمين، يكذبون ولو صدقوا!. ولكن، للكتابات الصحافية مساهمات هامة في عملية التغيير، على رأسها تنوير الرأي العام وتشكيله، والإشارة إلى السمات والملامح العامة للتغير، وطرح ومناقشة البدائل، وتسليط الضوء على متغيرات الواقع بهدف تجديد أدوات ومناهج تعاملنا مع هذا الواقع المتغير بصورة تتجاوز العناوين والمفاهيم وأدوات ومناهج العمل القديمة، وإعادة النظر بإستمرار حتى في الشعارات الجديدة والتي تحتاج إلى تطوير دائم ومستمر. وقناعة منا بدور الكتابات الصحافية هذا، نتطرق إلى بعض السمات العامة لعملية التغيير: التغيير لا يعرف المستحيل...، هكذا يثبت التاريخ ويؤكد الحاضر. فمهما بلغت أنظمة الإستبداد من قوة البطش وإمكانية السيطرة على مفاتيح الحراك الشعبي، فإنها لا تستطيع منع الإنفجار، الناتج الوحيد والحتمي للإنسداد. وهي أنظمة إذ ترتعب من شعوبها، وتتمزق داخليا بهذا الرعب، فإنها أعجز من أن تصمد أمام شعب كسر حاجز الخوف وأجمع على التغيير. وبوابة التغيير هي الإيمان المطلق بهذه الحقيقة، وذلك في مواجهة التخذيل والتيئيس وإفتراض الأفق المسدود، وفي مواجهة السيناريوهات التي تعيد إنتاج الأزمة. وهذا الإيمان المطلق ليس أعمى، وإنما تنير طريقه عدة قناديل، أهمها في نظري، رفض النمطية التي تعيش على إستدعاء تجارب الماضي، فتبحث عن كيفية تكرار ثورة اكتوبر 64 وإنتفاضة أبريل 85، في واقع يختلف عن واقع ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، خاصة وأن من سيصنع التغيير القادم ليس هو جيل أكتوبر أو أبريل. وأيضا رفض فكرة تصادم وتناقض تكتيكات ووسائل التغيير، وهذه سنناقشها في مقال قادم. كسر صنم النمطية، ورفض فكرة التصادم، سيفتحان بوابات الخيال والإبتكار لإطلاق الشرارة التي ستوقظ الناس من سباتهم السياسي. ولا تسألني، أيها القارئ العزيز، أين وكيف ومن يطلق هذه الشرارة، لأنني لا أملك الإجابة، مثلما لا تملكها أنت ولا يملكها هو..! ولكنا، أنت وأنا مع الآخرين، نملك أن نخلق وحدة تتمتع ببصيرة إختيار الطريق الصحيح المفضي لتلك الإجابة، والذي يبدأ بطرح الشعارات الصحيحة في الوقت الصحيح، والتي تتجسد في مطالب ملموسة تنبع من الهموم اليومية للناس، وتلقى صدى واسعا في دواخلهم، وتتفجر بهم حراكا ملهما. وسيلة التغيير، انتفاضة شعبية سلمية، إنتفاضة مسلحة، حوار وحل التفاوضي...الخ، ليست هي الجانب الوحيد في عملية التغيير، وإنما الأساس هو محتوى التغيير ومحصلته النهائية التي ستنتج عنه، وما إذا كان سيتصدى للأزمة ويعالجها بما هو أعمق من سطحها السياسي، ويمنع إعادة إنتاج الأزمة. قولنا هذا لا يعني تجاهلنا لحقيقة أن محصلة التغيير ونتائجه ترتبط بالضرورة، و بهذا القدر أو ذاك، بنوعية الوسيلة المستخدمة لتحقيقه. وفي هذا الصدد، فإن النقطة المفتاحية والجوهرية، هي أهمية الطابع الجماهيري الواسع لعملية التغيير، بإعتبار الجماهير هي حامل التغيير وضمان حقيقته وتحققه. ومن هنا رفضنا لسيناريوهات التآمر والانقلاب العسكري، وصفقات التفاوض والحوار القائمة فقط على إقتسام كراسي السلطة، متجاهلة القضايا الجوهرية المسببة للأزمة. يشهد عالم اليوم طفرة هائلة في إنضاج العامل الذاتي للتغيير. فالثورة التقنية الحديثة، ثورة الإتصال والمعلومات، بقدر ما كسرت إحتكار أنظمة الاستبداد للمعلومة، وقلصت قدرتها على المراقبة والتجسس والاختراق وشل الحركة بالاعتقال، بقدر ما كسرت أيضا العقلية النخبوية البيروقراطية للعمل المعارض، وخلقت مساحات وميادين ومنظمات إفتراضية لتوسيع آفاق العمل السياسي نحو أوسع صيغة من المشاركة والتفاعل، يمكن ترجمتها على أرض الواقع إلى قوة تغيير خارقة. ألم تلعب الثورة التقنية الحديثة دورا في إنتصار ثورات تونس ومصر أكبر بكثير من دور المؤسسات السياسية التقليدية؟. لكن أدوات ثورة الإتصال والمعلومات ستظل مجرد آلات صماء إذا لم تدرها عقول فعالة تحسن قراءة الواقع وتحولاته، وتترجم معطياته إلى مبادرات مبتكرة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. المتغيرات على أرض الواقع تفرض، وبالفعل فرضت كما حدث في انتفاضات تونس ومصر وليبيا واليمن...، مجموعة من النقلات والانتقالات، منها: الإنتقال من فكرة إنتظار الزعيم الكاريزما والبطل المنقذ، إلى فكرة القيادي والرئيس المسؤول وسط قيادة جماعية تتساوى في الواجبات والحقوق. والإنتقال من فكرة المناضل بالفهم القديم، الذي يحترف ويحتكر النضال، إلى فكرة الناشط الميداني، والذي هو ايضا مناضل ولكن بفهم حديث، فهو فرد يملك إستقلاليته ويفجر حيويته، مساهما في الميدان، مسؤولا ومشاركا، يبادر ويتحرك، يناقش وينتقد، يقترح وينفذ، يؤثر ويتأثر، زاده ووقوده هو الخلق والإبداع والإبتكار على نحو بنّاء لمنجزات العولمة والثورة التكنولوجية. والانتقال من المنظومة الآيديولوجية المغلقة الصماء إلى رحاب الفضاء المفتوح للتداول والتفاعل، بحيث الجميع يتغير ويسهم في تغيير الآخر، وبحيث أن ثورة التغيير لم تعد ثورة الطلائع والتنظيمات المعلبة، بل هي ثورة الإنسان العادي الذي يدشن عهدا جديدا يتصرف فيه كمشارك في فعل التغيير، له كلمته ومساهمته ورأيه، بعد أن كان في الماضي مجرد متلق في الحشد والندوات والليالي السياسية، يصفق ويهلل لبلاغة الزعيم، بل وأحيانا يمارس طقوس التقديس والتعظيم لهذا الزعيم القائد الملهم، ولمن يفكرون ويقررون بالإنابة عنه. التغيير الجذري يتحقق عندما يتمتن تحالف وحراك نشطاء التغيير في المدينة، مع النشطاء في الأطراف ومناطق الهامش.