تمثل الأزمة الاقتصادية التي يشهدها السودان حاليا، الهم الأكبر الذي يستحوذ على تفكير السودانيين بمختلف فئاتهم. فمنذ إجازة موازنة العام الحالي، وتحريك البنك المركزي لسعر الدولار الرسمي والجمركي إلى 18 جنيها مقابل 6.9 جنيهات في الموازنة السابقة، ارتفعت أسعار السلع في الأسواق، لا سيما السلع الاستهلاكية لما لها من تأثير مباشر على حياة المواطنين، وعلى رأسها الخبز، حيث تضاعف سعر جوال الدقيق (50 كلغ) المستخدم في الخبز بنسبة 200 بالمائة. كما دخلت البلاد في أزمة محروقات منذ نحو ثلاثة أشهر، في ظل موازنة حكومية يبلغ عجزها 28.4 مليار جنيه (4.11 مليارات دولار)، ما تشكل نسبته 2.4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. كل تلك القضايا الاقتصادية التي تشكل بالأساس عصب الحياة، ظلت مهمشة في خطاب المعارضة المنشغلة بقضايا أخرى، بحسب مواطنين، فيما يرى آخرون العكس. ** تغيير النظام أولا تحالف "قوى الإجماع الوطني" المعارض (يضم 11 حزبا سياسيا تمتنع عن المشاركة في الحياة النيابية في البلاد) أعلن مؤخرا تمسكه بميثاق "البديل الديمقراطي"، ووصفه بأنه الرؤية الأمثل لتغيير الأوضاع في البلاد. ووثيقة البديل الديمقراطي، ميثاق وقعه 21 حزبا، بينها أحزاب قوى الإجماع في يوليو / تموز 2012، ويؤطر لمرحلة ما بعد تغيير النظام الحاكم في السودان عبر فترة انتقالية مدتها أربع سنوات، يتم خلالها صياغة دستور دائم للبلاد، وتنظيم انتخابات. وفي هذا الشأن يقول ممثل الحزب الشيوعي في تحالف قوى الإجماع صديق يوسف، إن "وثيقة البديل الديمقراطي تخاطب كل القضايا التي تمثل المشكلة السودانية، لكن بعد تغيير النظام عبر انتفاضة شعبية". ويرى أن الوثيقة لم تكتف بمناقشة الأوضاع الاقتصادية في البلاد منذ انفصال دولة جنوب السودان في 2011، وصياغة دستور للبلاد، لكنها قدمت برامج ورؤى إصلاحية شاملة لمؤسسات الدولة. ** عجز المعارضة تجد تلك الرؤية الكثير من النقد بوصفها جامدة لا ترى أي إمكانية لمعالجة الأوضاع الاقتصادية المتردية إلا عقب تغيير النظام. ويتهم مراقبون المعارضة بالعجز عن تقديم حلول تفصيلية، وافتقارها للقاعدة الجماهيرية التي تستند إليها في تنظيم الاعتصامات والاحتجاجات على القرارات الحكومية، فيما آخرون أن البرامج الاقتصادية للمعارضة تتجلى في بياناتها. وشهدت العاصمة الخرطوم ومدن أخرى احتجاجات متفرقة ومحدودة في يناير / كانون الثاني 2018، تنديدا بالغلاء وارتفاع الأسعار. المعارضة تطرقت كثيرا للأوضاع الاقتصادية غير أن أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم بروفيسور الطيب زين العابدين، يرى أن "المعارضة حاضرة في القضايا الراهنة والمستقبلية". وقال زين العابدين للأناضول، إن "المعارضة ومن بينها تحالف قوى الإجماع، تطرقت كثيرا للأوضاع الاقتصادية وناقشتها في العديد من بياناتها". ويرى أن "حديث المعارضة عن المرحلة التي تعقب تغيير النظام لا يعني تخطيها للقضايا الراهنة، لكن تلك معارضة تهتم بالأساس بتغيير النظام، ومن الطبيعي أن تتطرق بشكل عام للأوضاع الاقتصادية". واعتبر زين العابدين أن الذين يتحدثون بالتفصيل عن المشكلات اليومية، هم "الراغبون في المشاركة في الانتخابات المقبلة، ويعملون على تقديم التفاصيل، فهم بذلك يهدفون إلى تقديم حلول للاستفادة منها جماهيريا في انتخابات 2020". وفي 12 يونيو / حزيران 2018، أعلن تحالف "قوى الإجماع الوطني" تبنيه برنامج "مقاطعة إيجابية" للانتخابات العامة المقررة عام 2020، وشدد في تصريح للأمين الإعلامي للتحالف محمد ضياء الدين، على أن تحالف المعارضة "يرى التغيير في الحكم عبر الانتفاضة الشعبية والتغيير الجماهيري". ويقصر زين العابدين الحديث عن المشكلات اليومية على الأحزاب التي تشارك الحكومة في السلطة، والمشاركة في الحوار الوطني. وقدم مثالا عن حزب الأمة القومي بزعامة المهدي (معارض)، الذي أصدر العديد من البيانات التي تناولت الوضع الاقتصادي بالتشريح، واتهم الحكومة بمعالجة المشكلات الاقتصادية على حساب المواطن. والحوار الوطني، مبادرة دعا إليها الرئيس السوداني عمر البشير عام 2014، وأنهت فعالياتها في أكتوبر / تشرين الأول 2017، وقاطعتها غالبية فصائل المعارضة بشقيها المدني والمسلح. ** إهمال مبكر للملف الاقتصادي فيما يرى الكاتب والمحلل السياسي أنور سليمان، أن "المعارضة أهملت الملف الاقتصادي منذ 1989، وهو تاريخ وصول الرئيس عمر البشير إلى السلطة". وأرجع سليمان في حديثه للأناضول، إهمال الشأن الاقتصادي إلى "عدم مؤسسية أحزاب المعارضة، التي تفتقر إلى وجود أجهزة اقتصادية دقيقة قادرة على قراءة الواقع، وفق معلومات حقيقية، ومن ثم تقديم تحليل". ومضى قائلا "ذلك الإهمال واضح لكل مراقب محايد للعمل المعارض في البلاد". وأضاف "أشكك في اطلاع المعارضة على المؤشرات الاقتصادية التي تصدرها المؤسسات الدولية، إضافة إلى تلك الصادرة محليا". ويرفض سليمان المبررات التي تتذرع بها هذه الأحزاب فيما يتعلق بإهمال الملف الاقتصادي، كالقول إن "الحكومة تحجب المعلومات الاقتصادية المهمة"، أو غيرها، ولا يعتبرها مقنعة لتبرير عجز المعارضة عن وضع الاقتصاد أولوية في عملها المعارض. وأردف "ينبغي لهم إيجاد الوسائل التي تمكنهم من الاطلاع على تلك المعلومات". ويجزم سليمان بانصراف المعارضة مجتمعة عن معاش الناس واهتماماتهم اليومية، وهو ما يدفع المواطنين لتجاوزها. وقال "لن تجد أذنا مصغية منه (المواطن) ما لم تتحدث عن احتياجاته الضرورية". وقفزت معدلات التضخم في السودان إلى 60.93 بالمائة في مايو / أيار الماضي على أساس سنوي، مقارنة ب 57.65 بالمائة في أبريل / نيسان الماضي. وأرجع بيان صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء أسباب الارتفاع لصعود أسعار مجموعة الأغذية والمشروبات لكثرة الاستهلاك في شهر رمضان. وتستهدف الموازنة السودانية للعام الجاري إبقاء معدل التضخم في حدود 19.5 بالمائة، مع معدل نمو 4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة ب 4.4 بالمائة في2017. ومنذ انفصال جنوب السودان في يوليو / تموز 2011، مستأثرا بنحو 75 بالمائة من إنتاج النفط، يشهد الجنيه السوداني تراجعا متواصلا، ليصل سعره في السوق الموازية نحو 39 جنيها للدولار الواحد. ** دعوة للمعارضة وخلال خطاب له مؤخرا في احتفالية حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بعيد الفطر، دعا الرئيس عمر البشير إلى حفظ الحقوق الدستورية لكافة المواطنين. واعتبر أن "الفرصة متاحة أمام المعارضة للمشاركة في صنع حاضر ومستقبل البلاد". وأوضح البشير أن حكومته ملتزمة بالتوافق حول المرحلة المقبلة، قائلا إن "الوطن يحتاج إلى تضافر الجهود من كل الأحزاب السياسية، لتقديم نموذج يفضي لحل المشكلات والوصول إلى توافق".