ظلّت مؤسسات بريتون وودز، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تعقدان اجتماعاتها السنويّة في مثل هذه الأيام من كل عام لتناقش موضوعات تبدو تقليدية في شؤون الاقتصاد العالمي المختلفة، مثل قضايا الاستقرار والنمو الاقتصادي، والتجارة الدوليّة، والتخفيف من غلواء الفقر، إلا أن المؤسستين العريقتين واجهتا هذه المرة تحدياً مختلفاً ينذر بمشهد اقتصادي جديد خارج السيطرة، كان محور النقاش العميق في مداولات مطوّلة على مدار الأيام الفائتة في جزيرة بالي الإندونيسية. فالتقدم التكنولوجي المذهل بوتيرته المتسارعة بدأ يدخل بقوة على عالم الاقتصاد؛ ما جعل الثورة الرقمية تضع الجميع أمام امتحان المواكبة الصعب مع هذه التطورات المتلاحقة. لقد أطلّ مع التكنولوجيا المتقدمة الكثير من الأسئلة الجديدة عن مآلاتها، ليس أقلها مثلاً مصير العملة التقليدية في عالم رقمي، وقد بدا لأول مرة يطرح الحديث عن الاستغناء عن النقود، التي ظلت تمثل على مدى قرون طويلة دوراً محورياً في العلاقات بين البشر. وحين استولت قبل سنوات قليلة التكنولوجيا المالية على خيال العالم حينما اخترعت وسائل بديلة للطرق التقليدية في أداء المدفوعات عبر بطاقات الائتمان، جاءت الرقمنة لتتجاوزها فيما يُعرف ب»العملات المشفرة» التي تؤذن بإعادة تعريف النقود ذاتها، وهو ما أطلق الكثير من التساؤلات حول العواقب المحتملة لذلك. يقول هارولد جيمس، الأستاذ في جامعة برنستون، كان المعتاد دائماً أن تستخدم النقود للتعبير عن السيادة، حتى وإن أخفقت بعض الدول في تحقيق ذلك، ولكن «العملات المشفرة» في رأي العديد من الخبراء لا تمتلك كل الخصائص الرئيسية للنقود، لكنهم يعتقدون أن تكنولوجيا دفاتر الحسابات الرقمية الموزعة التي تشكل ركيزة هذه الأصول يمكنها تحويل خدمات أداء المدفوعات بانتفاء الحاجة إلى وسيط، وهذا ما يعني ببساطة الحدّ من دور البنوك المركزية، ويضعف من سلطة الدولة على عرض النقود، وكان هذا بالفعل هو الدافع وراء «بتكوين» أولى العملات الرقمية اللامركزية. وعلى سبيل المثال يذكر محافظ البنك المركزي السويدي أن 13% فقط من المعاملات في بلاده تجري حالياً نقداً لتتجاوز بذلك عصر العملات الورقية التي كانت لها الهيمنة، وقال إنه لن يصبح بوسع الجمهور في وقت قريب استخدام وسيلة دفع مضمونة من الحكومة، ما لم تعد البنوك المركزية تعريف دورها. وفي وسط دعوات متزايدة للترجيح بين المخاوف بشأن إساءة استخدام التكنولوجيا المالية ومنافعها المحتملة للمجتمعات، تقترح كريستين لاغارد المدير العام لصندوق النقد الدولي «أنه يجب قبل كل شيء أن نظل منفتحين أمام فكرة الأصول المشفرة والتكنولوجيا المالية بشكل أوسع، ليس لمواجهة المخاطر التي تفرضها وحسب، وإنما كذلك لما قد تحتويه من إمكاناتنا لتحسين حياتنا»، ويرى زميلها دونغ هي أن أحد الاحتمالات هو إصدار البنوك المركزية عملات رقمية خاصّة بها، ولكنه بالطبع حل غير مجاني حيث يقتضي النظر بدقة في الخيارات المتاحة والمفاضلة على صعيد السياسات. لكن لاغارد أبدت مع ذلك قلقها من أن هناك بعض المخاطر آخذة في التحقق تهدد الاستقرار الاقتصادي والرخاء، وتهدد حتى المبادئ والمؤسسات، ومن بينها مسألة التكنولوجيا «نحن نعلم أن الثورة الرقمية تحمل في طياتها آمالاً واعدة ومخاطر كبيرة». فالتكنولوجيا البيولوجية وتكنولوجيا الروبوت والذكاء الاصطناعي ستخلق صناعات وفرص عمل جديدة، لكن هذا التحول سيكون مربكاً أيضاً ويتسبب في حالات من الحرمان. ويجب أن نكون منتبهين للآثار التي ستقع على الناس». وتشير لاغارد إلى أن التكنولوجيا المالية بإمكانها إطلاق العنان للديناميكية الاقتصادية والحدّ من الفقر، وخاصة بتوفير الخدمات المالية لحوالي 1.7 مليار نسمة لا يستفيدون من الخدمات المصرفية، ولكنها تعود لتحذر أنه «ينبغي توخي الحيطة في التعامل معها لحماية الاستقرار والأمان الماليين». ولأن الرقمنة تعني أحد تجليات العولمة فإنه لم يكن من مناص أمام المؤسستين الصندوق والبنك الدولي وجهات شريكة أخرى من إطلاق مبادرة «جدول أعمال بالي للتكنولوجيا المالية» للمساعدة في تقديم الإرشاد للمساعي المشتركة للإحاطة بهذه التطورات التكنولوجية المتسارعة. مسألة التقدم التكنولوجي وانعكاساته الاقتصادية كانت حاضرة أيضاً بقوة في مداولات اجتماعات بالي في ظل تناقضها بدرجة ما أيضاً مع مشروع «الاستثمار في رأس المال البشري» الذي أطلقه البنك الدولي في إطار أجندته الرئيسية الهادفة لإنهاء الفقر المدقع بحلول العام 2030، حيث أطلق أداة جديدة (مؤشر رأس المال البشري)، وهي جزء من مشروع رأس المال البشري العالمي الأوسع نطاقاً الذي يساند جهود تحقيق تقدُّم طويل الأجل وقابل للقياس نحو تحسين النواتج في مجالات التعليم والصحة والتغذية والحماية الاجتماعيّة. فقد أشار رئيس البنك الدولي جيم كيم إلى الأهمية البالغة لبناء رأس المال البشري، لا سيما في ظل التطورات التكنولوجية وتأثيرها على الوظائف، والقطاع المالي، والمناحي الأخرى للتنمية، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً برأس المال البشري، الحاجة إلى ضمان حصول الجميع على المهارات اللازمة للتكيُّف والازدهار وسط الاضطرابات الرقميّة. وفيما يعتقد كيم أنه بمقدور التكنولوجيا أن تساعد في تسريع وتيرة التقدّم نحو بلوغ هدفي مجموعة البنك الدولي: استئصال الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك. ولكن تسارع خطى الابتكار ينطوي أيضاً على مخاطر، صحيح قد يؤدي إلى خلق وظائف وأسواق جديدة، ولكنه في الوقت نفسه يجعل وظائف وأسواقاً أخرى خارج المنافسة. وخلافاً لزميلته لاغارد، يبدو كيم أكثر انزعاجاً وهو يتحدث عن «الحقيقة القاسية لأزمة رأس المال البشري»، ملقياً بالتبعة في ذلك على التقدم التكنولوجي، ففي رأيه قد تساعد على إيجاد حلول مبتكرة للحد من الفقر وتقليص التفاوت وعدم المساواة، لكنها قد تأتي أيضاً بخطر عدم الاستقرار، ويقول كيم «وحيثما يتطلع الناس إلى مستويات معيشة أفضل علموا بها في أماكن أخرى ولكن لا سبيل لديهم لتحقيقها، قد تهوي مشاعر الإحباط وخيبة الأمل بالبلدان في غمار الهشاشة والصراع والعنف والتطرّف والهجرة». انتهت مداولات الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدولي في جزيرة بالي الإندونيسية مُخلفة وراءها أسئلة أكثر بكثير من الأجوبة التي كانت عادة تجد طريقها لآلاف المشاركين المنشغلين بمستقبل الاقتصاد العالمي، ولكن هذه المرة ترك التقدّم التكنولوجي الهائل الذي يواصل فرض سيطرته على ساحة الاقتصاد العالمي الباب مفتوحاً أمام الاحتمالات كافة. كاتب وصحفي سوداني [email protected] عن الراية القطرية