بعثة الرابطة تودع ابوحمد في طريقها الى السليم    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالد موسى دفع الله: زيارة جديدة للطبقة الوسطى ومقايضات السلطة في السودان
نشر في رماة الحدق يوم 18 - 02 - 2019

إن الغزل الذي نسجته الطبقة الوسطى في السودان بدأت تنقضه بيدها وتخلع في إطار زلزلتها الراهنة يمينها عن عقد اجتماعي غير معلن استمر لأكثر من عقدين من الزمان أبرمته مع السلطة المركزية. وتقوم المقايضة التاريخية على دعم الاستقرار السياسي مقابل رعاية مصالحها الاقتصادية الطبقية. والحصول على الحرية الاجتماعية والمدنية مقابل الرضى بهامش ضئيل من الحرية السياسية.
مخطئ من يظن أن الاحتجاجات الراهنة هي حراك شبابي محض، وأن المعالجات والحلول يجب أن تصوب لمقابلة مطالب هذه الشريحة. لأن هذا الحراك الذي يرتكز على عمق اجتماعي أنتجته الطبقة الوسطى التي خرجت من رحم النظام في تمظهراته المتعددة جراء تدابير الاقتصاد السياسي، والتوسع في النظام التعليمي. لذا فإن أي تدابير تتخذ لعلاج الأزمة الراهنة ولا تمس جوهر مبتغيات ومطالب الطبقة الوسطى يعتبر حرثاً في البحر، هذا رغم أن الشباب يعتبر ذروة سنام هذه الطبقة والمعبر عن تطلعاتها كما كشف الحراك الأخير لكنها لا تمثل كل الظاهرة بكافة أبعادها الاجتماعية.
وفق هذا المنطق ربما يكون الشباب هم أبرز قطاعات الطبقة الوسطى، مما جعل البعض ينسب هذه الاحتجاجات للشباب كفئة عمرية ما فتئت تعاني من قطيعة تاريخية مع الأجيال التي ظلت تتحكم في السلطة والثروة منذ الاستقلال. وهي ذات العدد الأغلب في شارع الاحتجاجات، وذات الصوت الأبرز في صوغ الشعارات وقيادة الحراك، وهي ظاهرة تختلف عما اسماه منصور خالد الفجوات الجيلية في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي جراء إفرازات الحرب في أوروبا مما جعل منظمة مثل اليونسكو تهتم بظاهرة الفجوات الجيلية. ولعل الطبقة الوسطى التي نعنيها في هذا المقال تختلف عما يسميه التحليل الماركسي البرجوازية الصغيرة التي ربما تقف حجر عثرة أمام اكتمال مآلات الثورة الوطنية الديمقراطية.
هل كانت الشقة المعرفية واسعة بين هاري فيرهوفن وهو يصدر كتابه عن "المياه والحضارة والسلطة في السودان" عن دار كمبيردج للنشر في يونيو 2017 وبين كتاب دبليو جي بريدج عن "سياسات الإسلاميين والديمقراطية في السودان" عبر شخصية الشيخ حسن الترابي؟ وقد صدر الكتاب عن جامعة نيوكاسل في عام 2018.
إذ تناول فيرهوفن في تحليله أسس الاقتصاد السياسي في السودان الذي يرتكز على امتلاك مصادر المياه وتوظيفها لإحداث النهضة الاقتصادية، وخلق طبقة وسطى ذات ارتباط عضوي بالتوجهات اليمينية لحكم الإسلاميين. لكن فيرهوفن أطل قبل أسبوعين، حيث أدار ظهره لجملة حيثيات الكتاب الذي أوسعه نقداً في حينه الدكتور اليكس دي وال، ، وبدا فيرهوفن كأنه ينتقد النظرية الواردة في كتابه وقال في تحليل أصدرته منظومة (إيرين) الإخبارية عن الأمم المتحدة إن موجة الاحتجاجات الراهنة لن تسقط النظام، لكن ربما تسقطه الموجة القادمة.
أما جي دبليو بريدج فبعد تحليل للمكانزمات الداخلية عبر مراحل تطور الكسب السياسي للشيخ الترابي تقول يصعب حكم السودان دون أن يكون الإسلاميون جزءاً من رقعة الشطرنج السياسي في أي مرحلة من مراحل تاريخ السودان الحديث. وهي ذات المقولة التي رددها الصحفي اللبناني فؤاد مطر من قبل أن الحزب الشيوعي لا يملك الأغلبية الميكانيكية لحكم السودان، لكن في المقابل يستحيل على من يحكم السودان تجاوز الحزب الشيوعي لتأثيره العريض على النخب والشارع السوداني.
وتمضي بريدج في مقال آخر وهي تقارب بين ثورتي 64 و85 و بين الاحتجاجات الراهنة، إذ تزعم أن قادة الحكم مثل عبود ارتضى تسليم السلطة لثوار أكتوبر دون إراقة دماء، وأن ضعف نميري السياسي جراء تطاول مرضه الباثولوجي وتضعضعه المعنوي قاد إلى نجاح الانتفاضة في إبريل 1985. وتمضي بريدج لتقول إن الأمر ربما يبدو مغايراً الآن أكثر مما مضى إذ تتبدى سيطرة الرئيس البشير على مقاليد الحكم بصورة أكثر قوة من نظيريه عبود والنميري. ولعل العامل الفارق في المقارنة بين ثورتي أكتوبر وإبريل والاحتجاجات الراهنة وهو وجود حركات تمرد لديها مصلحة حقيقية في تغيير النظام الأمر الذي لم يكن موجوداً من قبل. إلا في المرحلة الأخيرة لنظام نميري إذ برزت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في جنوب السودان عام 1983 أي قبل عامين من انتفاضة إبريل. وتقول بيردج في كتابها إن موقف الإسلاميين في الانحياز للجماهير كان حاسماً لنجاح ثورتي أكتوبر وإبريل، لكن الآن ضعف تأثيرهم على الشارع في ظل الانقسام الداخلي الذي تعانيه الحركة الإسلامية.
ولعل العامل الحاسم حسب تحليل بريدج هو انحياز الجيش لثورتي أكتوبر وإبريل وهو العامل الغائب في الاحتجاجات الراهنة.
يقول اناكوا ديمينيا في مقال نشره في مجلة (النيوركر) واسعة الانتشار الأسبوع الماضي تحت عنوان "السوابق التاريخية للانتفاضة الحالية في السودان" إن وصف هذه الاحتجاجات بأنها من أجل الخبز أو أنها استنساخ لثورات الربيع العربي يعتبر وصفاً غير دقيق البتة، بل لهذه الاحتجاجات جذور تاريخية في تراب السياسة السودانية كما قال عبد الله علي إبراهيم لكاتب المقال.
ولعل الاختلاف الوحيد الذي أضافه اناكو ديمنيا في مقاله على ما ذكرته بيردج هو أن نظامي عبود ونميري سقطا خلال أقل من أسبوعين من بداية الانتفاضة لكن الاحتجاجات الراهنة تدخل الآن أسبوعها التاسع، وما يزال الكر والفر مشتعلاً، لكن لإكمال المقارنة التاريخية لم يسقط النظام حتى الآن لأن عوامل التغيير السياسي لم تنضج بعد متجاوزاً بذلك السوابق التاريخية الماضية.
أما مجدي الجزولي الذي استنطقه الكاتب وهو مثقف يساري مقيم في ألمانيا وزميل في معهد (الأخدود الإفريقي العظيم) فهو لم يبعد النجعة عن تحليلنا السابق والموسوم (الطبقة الوسطى ومقايضات السلطة في السودان)، وهو مقال استفز القريحة الاكاديمية للدكتور الكبير عطا البطحاني فكتب رداً احتفت به وسائط كثيرة أشفى غليلها الأيديولوجي.
يقول الجزولي إن ضعف الاقتصاد أدى إلى انتهاء عقد المصالحة أو المساومة مع ما اسماه الطبقات العليا التي ظلت تستفيد من ريع الدولة الاقتصادي. لكننا نرى أن العقد الاجتماعي غير المعلن مهرته الطبقة الوسطى بتوقيعات الرضى والقبول وتمنعها من الخروج على النظام السياسي مقابل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية من سياسات وقوانين ورعاية صحية وتعليمية ومصالح طبقية متعددة، وشمل هذا العقد الاجتماعي أيضاً القبول والرضى أيضاً بضعف هامش الحرية السياسي مقابل التمتع بالحريات الاجتماعية لهذه الطبقة.
أي قراءة عجلى لمؤشرات التنمية في السودان، وكذلك مؤشرات العامل الديمغرافي تكشف بوضوح ليس تململ هذه الطبقة فحسب بل معاناتها من انزياحات تاريخية كبرى. إذ قضت سياسة سحب الدعم عن السلع والخدمات وكذلك ازدياد معدل التضخم وتآكل القيمة الشرائية للعملة السودانية وتجاوز مؤشر البطالة ليصل إلى 45٪ وزيادة نسبة الفقر، وزيادة الجباية أدى كل ذلك إلى انتهاء صلاحية التراضي التاريخي أو بمعنى آخر نهاية الأجل السياسي للعقد الاجتماعي المبرم بين السلطة المركزية والطبقة الوسطى، وهو إبرام معنوي سياسي مستتر وغير معلن وليس بالطبع عقداً قانونياً مشهوداً حتى يظل شريعة للمتعاقدين.
وجدت الطبقة الوسطى مع تزايد حالة التجريف الاقتصادي أن التنازلات التي قدمتها من أجل الاستقرار السياسي مقابل الحصول على مصالحها الاقتصادية الطبقية أصبحت أحلاماً تذروها الرياح مع إطلالة كل يوم جديد. ولعل أكبر مؤشرات هذا الخلل هو ازدياد نسبة البطالة خاصة وسط المهنيين وتدهور أحوالهم المعيشية مع تدهور ريع الوظيفة العامة وامتيازاتها المهنية.
لقد ارتكب منظرو ثورة التعليم العالي خطأ جسيماً إذ لم يربطوا مخرجات التعليم العالي مع توسيع سوق العمل لاستيعاب جحافل الخريجين. وظل هؤلاء يباهون بجلبة جيوش الخريجين من الجامعات تحت شعار إشاعة الوعي أولى من سوق العمل، و عزوا انحسار وتجافي الولاء الطائفي في مناطق السودان التقليدية لبروز جيل جديد مسلح بالعلم والمعرفة وليس القداسة. لكن سرعان ما انقلبت الطبقة الوسطى على الأيدي التي صنعتها في مرحلتها الأخيرة. وكانت الدولة تفخر بأنها تخرج سنوياً خمسة آلاف طبيب، ومع ضيق سوق العمل في الخليج وبدء العودة العكسية لآلاف المغتربين، وتقلص وظائف الخدمة العامة خاصة لاستيعاب الأطباء والمهندسين بدأت خميرة التململ الاجتماعي تتفاعل في الأفق، مما جعل أولي النظر يدركون أن خميرة التململ الاجتماعي في مراحل تفاعلها الأخيرة وأن ساعة الانفجار آتية لا ريب.
هذا التحليل هو نفسه ما انتهى إليه المختصون في دراسة سقوط نظام سوهارتو في أندونيسيا 1998، وهو يعتبر باني أندونيسيا الحديثة، حيث مهد النظام عبر التوسع في التعليم في كافة جزيرة جاوة إلى نشوء طبقة وسطى هي التي قادت التغيير ضد سوهارتو نفسه. وكما قال هنتنجتون في كتابه الشهير "النظام السياسي في عالم متغير" الصادر في 1969 إن ما اسماه "الديكتاتورية الانتقالية " التي نجحت في بناء المؤسسات هي التي تمهد لقيام نظام ديمقراطي مثل حالة نظام سوهارتو.
ربما كان من المقدر أن يكون هذا الانفجار أبكر في موعده، مع تزايد عدد الخريجين، وتناقص سوق العمل، وازدياد نسبة البطالة ولكن حال دون ذلك انفتاح سوق التعدين الأهلي للذهب الذي استوعب بضعة ملايين وامتص بطالة المدن من فئة الشباب ومن هم في طور الإنتاج.
سبق وأن اتهمنا المعارضة من قبل بأنها خائبة في استخدام أدوات القوة الناعمة، لكن تكتيك هذه الاحتجاجات أبرز نجاعة ما في استخدام القوة الناعمة، خاصة توظيف قوة وسائل التواصل الاجتماعي، وهي بلا أدنى شك نتاج عملية تشبيك بعيدة المدى لخلق وإنشاء منظمات للمجتمع المدني تولت تدريب الناشطين والشباب في عواصم دول الجوار تحت لافتات ومسميات مختلفة.
لعل الذي زاد الأمر ضغثاً علي إبالة في ظل المقايضة التاريخية للطبقة الوسطى مع السلطة هو التنازل عن السلطة السياسية مقابل الحصول علي الحريات الاجتماعية والمدنية، وبلا ادنى شك لم تعر الحكومة هذا البند ادنى قيمة في ظل هذه المقايضة التاريخية، إذ ظلت مهمومة بتقليص هامش الحريات المدنية والاجتماعية بسلسلة من القوانين والسياسات والتدابير الإدارية والأمنية والتنظيمية، ومما زاد الجرح على الإهانة لمنسوبي الطبقة الوسطى هو سوء تطبيق القانون في المواد الجنائية المرتبطة بالزي والشبهات، وكان من ضحايا هذا التطبيق المتعسف كثير من رموز الطبقة الوسطى وشبابها، لهذا وجد الناس ارتياحاً بالغاً للنقد الذي قدمه السيد رئيس الجمهورية للتطبيق الشائن للقانون ومخالفة مبادئ الشريعة التي تقوم على الستر لا التشهير.
إذا سلمنا جدلاً أن حركة الاحتجاجات الراهنة حسب فرضية هذا المقال هي نقض لتعهدات الطبقة الوسطى التي قطعتها مع السلطة في إطار مقايضتها التاريخية وهي التنازل عن السلطة مقابل الحصول علي مصالحها الطبقية الاقتصادية والاجتماعية والتنازل عن الحقوق السياسية مقابل الحصول على الحريات الاجتماعية والمدنية.
وجاء نقض العقد الاجتماعي نسبة لعزم وفاء السلطة لتعهداتها تجاه امتيازات الطبقة الوسطى ربما لظروف بعضها موضوعي منها فقدان 75٪ من عائدات النفط والعملة الحرة و50٪ من موارد الموازنة القومية، هذا إضافة للآثار السلبية للحصار الاقتصادي الأمريكي. لكن حسب اعتقادي المتواضع أن سبب نقض هذا العقد الاجتماعي مع الطبقة الوسطى ليس فقط ضعف مردود الاقتصاد الوطني مما حال دون الوفاء بمطلوبات الطبقة الوسطى فحسب، بل ربما عدم إدراك العقل السياسي في السلطة المركزية لأبعاد هذا العقد في عمقه الاجتماعي، وتمظهراته السياسية، سيما وهو عقد مستتر تدركه العقول فقط ولا تسعه أوراق البيان وطرس المداد وشهادة العدول أمام محكمة التاريخ.
الطبقة الوسطى من ناحية أخرى تمثل الكتلة الحرجة لإحداث التغيير، لكنها قد تختار انحيازات أخرى حسب طبيعة تركيبتها ومصالحها المرحلية كما نفهمها. فهي بحكم التكوين والأهداف خوارة من ارتياد المخاطر والخسائر الكبرى ولديها القدرة على المساومة للمحافظة على مكتسباتها. وهي كذلك بحكم تركيبتها المهنية أقرب لسلطة الدولة المركزية لذا فهي هروبة من دعم مشروع انهيار الدولة أو تصدع السلطة المركزية لأنها لا تخدم اهدافها ولا تنسجم مع أطروحاتها أو مصالحها الطبقية إلا إذا سدت في وجهها أبواب التغيير والمساومة.
لذا فإن التحليل يتجه إلى أن حركة الاحتجاجات التي تقودها الطبقة الوسطى في السودان عبر أبرز وأنشط قطاعاتها (الشباب)، تحاول تغيير شروط هذا العقد وذلك بالحصول على الحرية السياسية بعد أن خابت رجاءاتها في تأمين مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وذلك لأن التنازل عن الحرية السياسية و الرضى بهامش محسوب، تم مقابل تحصيل المصالح الاقتصادية و تدفق في الحرية الاجتماعية والمدنية.
لذا فإن ارتداد الطبقة الوسطى عن هذه المساومة التاريخية وسعيها للحصول على الحرية السياسية عبر دعم وقيادة الاحتجاجات الراهنة، هي العاصم بالنسبة لها من قواصم السياسة أو فقدان مصالحها الحيوية مرة أخرى. لكن حسب ظني أن هذه الطبقة في ظل سعيها الحثيث للحصول على الحرية السياسية لا تحبذ إسقاط الدولة او السلطة المركزية لأن ذلك يتناقض مع مصالحها ولكنها تسعى لتغيير قوانين ووجوه اللعبة وإدخال لاعبين جدد للساحة السياسية على حساب رموز السلطة التي حرمتهم من امتيازاتهم التاريخية حسبما يظنون.
ومن الواضح إذا صح خيط هذا التحليل أن الطبقة الوسطى تجد نفسها على النقيض تماماً مع تحالفات الهامش الذي يستهدف في الأساس إسقاط الدولة وسلطتها المركزية وإعادة هيكلة السياسة السودانية بإدخال طبقات الهامش على حساب امتيازات الطبقة الوسطى.
لذا نجد في المشهد السياسي الموار بالتغيير، أمشاجاً لتحالفات متعددة تسابق بعضها البعض على إحداث التغيير وفقاً لأهداف كل جهة على حدة، فمثلاً بعض الكيانات السياسية ذات الطابع الأيديولوجي تسعى لإسقاط النظام تحت شعار (تسقط بس) دون معرفة من البديل أو كما قال هيكل بعد أكتوبر في السودان (ثم ماذا بعد؟)، لكن قناعتي أن الطبقة الوسطى بحكم مصالحها الطبقية زاهدة في إسقاط الدولة المركزية مقابل بديل من الهامش لم تتضح ملامحه بعد، لأن حركات الهامش بكل بساطة تستمد شرعيتها ليس من تاريخها النضالي بل من قوة السلاح، وهي بحكم انحيازاتها الأيديولوجية ترياق مضاد لكتل الأفندية الثائرة في الخرطوم خوفاً من إعادة إنتاج ذات المنظومة السلطوية التاريخية التي ترتكز على إرث نخب الوسط النيلي..
لكن يبقى مأزق السلطة هو كيفية تعاملها مع أجندة التغيير التي تتبناها الطبقة الوسطى بعد أن غيرت قواعد اللعبة، وخلعت يد الطاعة عن السلطة المركزية بعد أن تنكبت طريق المساومة التاريخية. وفي ظني المتواضع أن تطلعات الطبقة الوسطى في الوضع الراهن لن ترضى بديلا عن حريتها السياسية لتأمين مصالحها بعد أن فشلت تجربتها السابقة، وهي استخدام هامش الحرية النسبية الممنوح وفق المساومة المذكورة مقابل مصالحها الاقتصادية وامتيازاتها التاريخية.
ولعل العامل المشترك الذي يمكن أن تبنى عليه شراكات جديدة هو الحرص على بقاء واستقرار الدولة وسلطتها المركزية ولكن بإصلاحات جذرية شاملة، وأن تدخل الطبقة الوسطى ضمن نسيج السلطة وليس مجرد ضامن لها كما كان في السابق، بما يعني أن تكون سياسات الدولة وميزانيتها موجهة لخدمة الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعبر عنها الطبقة الوسطى، بما في ذلك الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تقود إلى تحول ديمقراطي ينال رضى كل الأطراف دون إستحداث أي قانون للعزل السياسي. إذا نجحت هذه المقايضة الجديدة التي ستتم على أساس إنجاز تغييرات جذرية في الحكم والسياسة، يمكن للسودان أن يكتب فصلاً جديداً في تاريخه السياسي الحديث، وذلك لأن الحراك السياسي والاجتماعي الذي ستحدثه الطبقة الوسطى باعتبارها الفاعل الأمضى أثراً والأعمق تأثيراً، والكتلة الأكثر تماسكاً ستكون هي من يصنع الملك king maker لكنها إذا تحولت لتكون الملك نفسه ستخسر بلا شك أفق مساومتها التاريخية كمعادل موضوعي لانحرافات السلطة في السودان. وبالطبع إذا فشلت هذه المقايضة فإن دونها الطوفان الذي يغرق الجميع.
ويقيني الثابت أنه ليس من مصلحة الطبقة الوسطى استعادة الديمقراطية الشكلانية الصورية الأبوية المنزع التي حكمت السودان من قبل لأنها تحمل أسباب فشلها بين أحشائها، ولكن بناء ديمقراطية ليبرالية حقيقية تخرج السودان من الأفق التاريخي المظلم. ولعل مقولة الاستاذ عبدالعزيز الصاوي تصلح للتداول أنه لا ديمقراطية دون استنارة، ولا ديمقراطية دون ديمقراطيين.
كشفت مجلة ( السياسة الخارجية) عدد يوليو 2018 ولحقتها مجلة (الاطلنطي) The Atlantic عدد أكتوبر 2018 عن تراجع مخيف في مؤشرات الديمقراطية في العالم. وكشفت دورية السياسة الخارجية في عنوان عددها الرئيس Is Democracy Dying عن تراجع مريع في الأفق الديمقراطي الليبرالي جراء موجات الشعبوية وتراجع الدول الكبرى عن التزاماتها التاريخية، بل سعيها الحثيث للسيطرة على مقاليد السلطة وإضعاف مكانيزمات المراجعة والإصلاح الداخلي. أصبحت التحولات الديمقراطية مأزومة بالواقع العالمي جراء الرأسمالية المتوحشة، و العولمة التي أذابت الهويات، وازدادت فيه الفجوة بين الطبقات والأمم والشعوب واختلت فيه موازين العدالة إذا ازداد الأغنياء غنى والفقراء فقراً.
عندما خرج بنجامين فرانكلين من المؤتمر الدستوري عام 1787 سألته سيدة: ماذا أنجزتم لنا في الدستور. أنظاماً ملكياً أم جمهورياً؟ فرد عليها قائلاً: نظاماً جمهورياً إذا استطعتم المحافظة عليه. ولا تبعد هذه المقولة النجعة عن ما قاله الزعيم الأزهري " جلبنا لكم الاستقلال مثل صحن الصيني لا فيهو شق لا فيهو طق"، لكن الأديب الراحل معاوية نور الذي توفي قبل أن يحتفل بالاستقلال الذي ناضل من أجله قال" أخشى أن يأتي الاستقلال فارغاً من كل معنى".
الخوف أن ينتج الحراك السياسي الراهن فوضى وحرباً أهلية إذا سقطت السلطة المركزية، وهو سيناريو ربما يكون مستبعداً حتى الآن حسب المعطيات الراهنة ولعدم نضوج أسبابه المنطقية، أو أن تنجح السلطة في احتواء هذه الاحتجاجات وتلتف عليها لتصنع إصلاحاً وتحولاً سياسياً وتغييراً فارغاً من اي معنى، حسب تعبير معاوية نور، و لا يخاطب جذور الأزمة السودانية. حينها تستبين رواهش الغضب حشفاً وسوء كيلا، لذا لا بد من مساومة تاريخية جديدة مع الطبقة الوسطى وفق شروطها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.