منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث: المدنيون في الفاشر يكافحون بالفعل من أجل البقاء على قيد الحياة    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالد موسى دفع الله: زيارة جديدة للطبقة الوسطى ومقايضات السلطة في السودان
نشر في رماة الحدق يوم 18 - 02 - 2019

إن الغزل الذي نسجته الطبقة الوسطى في السودان بدأت تنقضه بيدها وتخلع في إطار زلزلتها الراهنة يمينها عن عقد اجتماعي غير معلن استمر لأكثر من عقدين من الزمان أبرمته مع السلطة المركزية. وتقوم المقايضة التاريخية على دعم الاستقرار السياسي مقابل رعاية مصالحها الاقتصادية الطبقية. والحصول على الحرية الاجتماعية والمدنية مقابل الرضى بهامش ضئيل من الحرية السياسية.
مخطئ من يظن أن الاحتجاجات الراهنة هي حراك شبابي محض، وأن المعالجات والحلول يجب أن تصوب لمقابلة مطالب هذه الشريحة. لأن هذا الحراك الذي يرتكز على عمق اجتماعي أنتجته الطبقة الوسطى التي خرجت من رحم النظام في تمظهراته المتعددة جراء تدابير الاقتصاد السياسي، والتوسع في النظام التعليمي. لذا فإن أي تدابير تتخذ لعلاج الأزمة الراهنة ولا تمس جوهر مبتغيات ومطالب الطبقة الوسطى يعتبر حرثاً في البحر، هذا رغم أن الشباب يعتبر ذروة سنام هذه الطبقة والمعبر عن تطلعاتها كما كشف الحراك الأخير لكنها لا تمثل كل الظاهرة بكافة أبعادها الاجتماعية.
وفق هذا المنطق ربما يكون الشباب هم أبرز قطاعات الطبقة الوسطى، مما جعل البعض ينسب هذه الاحتجاجات للشباب كفئة عمرية ما فتئت تعاني من قطيعة تاريخية مع الأجيال التي ظلت تتحكم في السلطة والثروة منذ الاستقلال. وهي ذات العدد الأغلب في شارع الاحتجاجات، وذات الصوت الأبرز في صوغ الشعارات وقيادة الحراك، وهي ظاهرة تختلف عما اسماه منصور خالد الفجوات الجيلية في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي جراء إفرازات الحرب في أوروبا مما جعل منظمة مثل اليونسكو تهتم بظاهرة الفجوات الجيلية. ولعل الطبقة الوسطى التي نعنيها في هذا المقال تختلف عما يسميه التحليل الماركسي البرجوازية الصغيرة التي ربما تقف حجر عثرة أمام اكتمال مآلات الثورة الوطنية الديمقراطية.
هل كانت الشقة المعرفية واسعة بين هاري فيرهوفن وهو يصدر كتابه عن "المياه والحضارة والسلطة في السودان" عن دار كمبيردج للنشر في يونيو 2017 وبين كتاب دبليو جي بريدج عن "سياسات الإسلاميين والديمقراطية في السودان" عبر شخصية الشيخ حسن الترابي؟ وقد صدر الكتاب عن جامعة نيوكاسل في عام 2018.
إذ تناول فيرهوفن في تحليله أسس الاقتصاد السياسي في السودان الذي يرتكز على امتلاك مصادر المياه وتوظيفها لإحداث النهضة الاقتصادية، وخلق طبقة وسطى ذات ارتباط عضوي بالتوجهات اليمينية لحكم الإسلاميين. لكن فيرهوفن أطل قبل أسبوعين، حيث أدار ظهره لجملة حيثيات الكتاب الذي أوسعه نقداً في حينه الدكتور اليكس دي وال، ، وبدا فيرهوفن كأنه ينتقد النظرية الواردة في كتابه وقال في تحليل أصدرته منظومة (إيرين) الإخبارية عن الأمم المتحدة إن موجة الاحتجاجات الراهنة لن تسقط النظام، لكن ربما تسقطه الموجة القادمة.
أما جي دبليو بريدج فبعد تحليل للمكانزمات الداخلية عبر مراحل تطور الكسب السياسي للشيخ الترابي تقول يصعب حكم السودان دون أن يكون الإسلاميون جزءاً من رقعة الشطرنج السياسي في أي مرحلة من مراحل تاريخ السودان الحديث. وهي ذات المقولة التي رددها الصحفي اللبناني فؤاد مطر من قبل أن الحزب الشيوعي لا يملك الأغلبية الميكانيكية لحكم السودان، لكن في المقابل يستحيل على من يحكم السودان تجاوز الحزب الشيوعي لتأثيره العريض على النخب والشارع السوداني.
وتمضي بريدج في مقال آخر وهي تقارب بين ثورتي 64 و85 و بين الاحتجاجات الراهنة، إذ تزعم أن قادة الحكم مثل عبود ارتضى تسليم السلطة لثوار أكتوبر دون إراقة دماء، وأن ضعف نميري السياسي جراء تطاول مرضه الباثولوجي وتضعضعه المعنوي قاد إلى نجاح الانتفاضة في إبريل 1985. وتمضي بريدج لتقول إن الأمر ربما يبدو مغايراً الآن أكثر مما مضى إذ تتبدى سيطرة الرئيس البشير على مقاليد الحكم بصورة أكثر قوة من نظيريه عبود والنميري. ولعل العامل الفارق في المقارنة بين ثورتي أكتوبر وإبريل والاحتجاجات الراهنة وهو وجود حركات تمرد لديها مصلحة حقيقية في تغيير النظام الأمر الذي لم يكن موجوداً من قبل. إلا في المرحلة الأخيرة لنظام نميري إذ برزت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في جنوب السودان عام 1983 أي قبل عامين من انتفاضة إبريل. وتقول بيردج في كتابها إن موقف الإسلاميين في الانحياز للجماهير كان حاسماً لنجاح ثورتي أكتوبر وإبريل، لكن الآن ضعف تأثيرهم على الشارع في ظل الانقسام الداخلي الذي تعانيه الحركة الإسلامية.
ولعل العامل الحاسم حسب تحليل بريدج هو انحياز الجيش لثورتي أكتوبر وإبريل وهو العامل الغائب في الاحتجاجات الراهنة.
يقول اناكوا ديمينيا في مقال نشره في مجلة (النيوركر) واسعة الانتشار الأسبوع الماضي تحت عنوان "السوابق التاريخية للانتفاضة الحالية في السودان" إن وصف هذه الاحتجاجات بأنها من أجل الخبز أو أنها استنساخ لثورات الربيع العربي يعتبر وصفاً غير دقيق البتة، بل لهذه الاحتجاجات جذور تاريخية في تراب السياسة السودانية كما قال عبد الله علي إبراهيم لكاتب المقال.
ولعل الاختلاف الوحيد الذي أضافه اناكو ديمنيا في مقاله على ما ذكرته بيردج هو أن نظامي عبود ونميري سقطا خلال أقل من أسبوعين من بداية الانتفاضة لكن الاحتجاجات الراهنة تدخل الآن أسبوعها التاسع، وما يزال الكر والفر مشتعلاً، لكن لإكمال المقارنة التاريخية لم يسقط النظام حتى الآن لأن عوامل التغيير السياسي لم تنضج بعد متجاوزاً بذلك السوابق التاريخية الماضية.
أما مجدي الجزولي الذي استنطقه الكاتب وهو مثقف يساري مقيم في ألمانيا وزميل في معهد (الأخدود الإفريقي العظيم) فهو لم يبعد النجعة عن تحليلنا السابق والموسوم (الطبقة الوسطى ومقايضات السلطة في السودان)، وهو مقال استفز القريحة الاكاديمية للدكتور الكبير عطا البطحاني فكتب رداً احتفت به وسائط كثيرة أشفى غليلها الأيديولوجي.
يقول الجزولي إن ضعف الاقتصاد أدى إلى انتهاء عقد المصالحة أو المساومة مع ما اسماه الطبقات العليا التي ظلت تستفيد من ريع الدولة الاقتصادي. لكننا نرى أن العقد الاجتماعي غير المعلن مهرته الطبقة الوسطى بتوقيعات الرضى والقبول وتمنعها من الخروج على النظام السياسي مقابل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية من سياسات وقوانين ورعاية صحية وتعليمية ومصالح طبقية متعددة، وشمل هذا العقد الاجتماعي أيضاً القبول والرضى أيضاً بضعف هامش الحرية السياسي مقابل التمتع بالحريات الاجتماعية لهذه الطبقة.
أي قراءة عجلى لمؤشرات التنمية في السودان، وكذلك مؤشرات العامل الديمغرافي تكشف بوضوح ليس تململ هذه الطبقة فحسب بل معاناتها من انزياحات تاريخية كبرى. إذ قضت سياسة سحب الدعم عن السلع والخدمات وكذلك ازدياد معدل التضخم وتآكل القيمة الشرائية للعملة السودانية وتجاوز مؤشر البطالة ليصل إلى 45٪ وزيادة نسبة الفقر، وزيادة الجباية أدى كل ذلك إلى انتهاء صلاحية التراضي التاريخي أو بمعنى آخر نهاية الأجل السياسي للعقد الاجتماعي المبرم بين السلطة المركزية والطبقة الوسطى، وهو إبرام معنوي سياسي مستتر وغير معلن وليس بالطبع عقداً قانونياً مشهوداً حتى يظل شريعة للمتعاقدين.
وجدت الطبقة الوسطى مع تزايد حالة التجريف الاقتصادي أن التنازلات التي قدمتها من أجل الاستقرار السياسي مقابل الحصول على مصالحها الاقتصادية الطبقية أصبحت أحلاماً تذروها الرياح مع إطلالة كل يوم جديد. ولعل أكبر مؤشرات هذا الخلل هو ازدياد نسبة البطالة خاصة وسط المهنيين وتدهور أحوالهم المعيشية مع تدهور ريع الوظيفة العامة وامتيازاتها المهنية.
لقد ارتكب منظرو ثورة التعليم العالي خطأ جسيماً إذ لم يربطوا مخرجات التعليم العالي مع توسيع سوق العمل لاستيعاب جحافل الخريجين. وظل هؤلاء يباهون بجلبة جيوش الخريجين من الجامعات تحت شعار إشاعة الوعي أولى من سوق العمل، و عزوا انحسار وتجافي الولاء الطائفي في مناطق السودان التقليدية لبروز جيل جديد مسلح بالعلم والمعرفة وليس القداسة. لكن سرعان ما انقلبت الطبقة الوسطى على الأيدي التي صنعتها في مرحلتها الأخيرة. وكانت الدولة تفخر بأنها تخرج سنوياً خمسة آلاف طبيب، ومع ضيق سوق العمل في الخليج وبدء العودة العكسية لآلاف المغتربين، وتقلص وظائف الخدمة العامة خاصة لاستيعاب الأطباء والمهندسين بدأت خميرة التململ الاجتماعي تتفاعل في الأفق، مما جعل أولي النظر يدركون أن خميرة التململ الاجتماعي في مراحل تفاعلها الأخيرة وأن ساعة الانفجار آتية لا ريب.
هذا التحليل هو نفسه ما انتهى إليه المختصون في دراسة سقوط نظام سوهارتو في أندونيسيا 1998، وهو يعتبر باني أندونيسيا الحديثة، حيث مهد النظام عبر التوسع في التعليم في كافة جزيرة جاوة إلى نشوء طبقة وسطى هي التي قادت التغيير ضد سوهارتو نفسه. وكما قال هنتنجتون في كتابه الشهير "النظام السياسي في عالم متغير" الصادر في 1969 إن ما اسماه "الديكتاتورية الانتقالية " التي نجحت في بناء المؤسسات هي التي تمهد لقيام نظام ديمقراطي مثل حالة نظام سوهارتو.
ربما كان من المقدر أن يكون هذا الانفجار أبكر في موعده، مع تزايد عدد الخريجين، وتناقص سوق العمل، وازدياد نسبة البطالة ولكن حال دون ذلك انفتاح سوق التعدين الأهلي للذهب الذي استوعب بضعة ملايين وامتص بطالة المدن من فئة الشباب ومن هم في طور الإنتاج.
سبق وأن اتهمنا المعارضة من قبل بأنها خائبة في استخدام أدوات القوة الناعمة، لكن تكتيك هذه الاحتجاجات أبرز نجاعة ما في استخدام القوة الناعمة، خاصة توظيف قوة وسائل التواصل الاجتماعي، وهي بلا أدنى شك نتاج عملية تشبيك بعيدة المدى لخلق وإنشاء منظمات للمجتمع المدني تولت تدريب الناشطين والشباب في عواصم دول الجوار تحت لافتات ومسميات مختلفة.
لعل الذي زاد الأمر ضغثاً علي إبالة في ظل المقايضة التاريخية للطبقة الوسطى مع السلطة هو التنازل عن السلطة السياسية مقابل الحصول علي الحريات الاجتماعية والمدنية، وبلا ادنى شك لم تعر الحكومة هذا البند ادنى قيمة في ظل هذه المقايضة التاريخية، إذ ظلت مهمومة بتقليص هامش الحريات المدنية والاجتماعية بسلسلة من القوانين والسياسات والتدابير الإدارية والأمنية والتنظيمية، ومما زاد الجرح على الإهانة لمنسوبي الطبقة الوسطى هو سوء تطبيق القانون في المواد الجنائية المرتبطة بالزي والشبهات، وكان من ضحايا هذا التطبيق المتعسف كثير من رموز الطبقة الوسطى وشبابها، لهذا وجد الناس ارتياحاً بالغاً للنقد الذي قدمه السيد رئيس الجمهورية للتطبيق الشائن للقانون ومخالفة مبادئ الشريعة التي تقوم على الستر لا التشهير.
إذا سلمنا جدلاً أن حركة الاحتجاجات الراهنة حسب فرضية هذا المقال هي نقض لتعهدات الطبقة الوسطى التي قطعتها مع السلطة في إطار مقايضتها التاريخية وهي التنازل عن السلطة مقابل الحصول علي مصالحها الطبقية الاقتصادية والاجتماعية والتنازل عن الحقوق السياسية مقابل الحصول على الحريات الاجتماعية والمدنية.
وجاء نقض العقد الاجتماعي نسبة لعزم وفاء السلطة لتعهداتها تجاه امتيازات الطبقة الوسطى ربما لظروف بعضها موضوعي منها فقدان 75٪ من عائدات النفط والعملة الحرة و50٪ من موارد الموازنة القومية، هذا إضافة للآثار السلبية للحصار الاقتصادي الأمريكي. لكن حسب اعتقادي المتواضع أن سبب نقض هذا العقد الاجتماعي مع الطبقة الوسطى ليس فقط ضعف مردود الاقتصاد الوطني مما حال دون الوفاء بمطلوبات الطبقة الوسطى فحسب، بل ربما عدم إدراك العقل السياسي في السلطة المركزية لأبعاد هذا العقد في عمقه الاجتماعي، وتمظهراته السياسية، سيما وهو عقد مستتر تدركه العقول فقط ولا تسعه أوراق البيان وطرس المداد وشهادة العدول أمام محكمة التاريخ.
الطبقة الوسطى من ناحية أخرى تمثل الكتلة الحرجة لإحداث التغيير، لكنها قد تختار انحيازات أخرى حسب طبيعة تركيبتها ومصالحها المرحلية كما نفهمها. فهي بحكم التكوين والأهداف خوارة من ارتياد المخاطر والخسائر الكبرى ولديها القدرة على المساومة للمحافظة على مكتسباتها. وهي كذلك بحكم تركيبتها المهنية أقرب لسلطة الدولة المركزية لذا فهي هروبة من دعم مشروع انهيار الدولة أو تصدع السلطة المركزية لأنها لا تخدم اهدافها ولا تنسجم مع أطروحاتها أو مصالحها الطبقية إلا إذا سدت في وجهها أبواب التغيير والمساومة.
لذا فإن التحليل يتجه إلى أن حركة الاحتجاجات التي تقودها الطبقة الوسطى في السودان عبر أبرز وأنشط قطاعاتها (الشباب)، تحاول تغيير شروط هذا العقد وذلك بالحصول على الحرية السياسية بعد أن خابت رجاءاتها في تأمين مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وذلك لأن التنازل عن الحرية السياسية و الرضى بهامش محسوب، تم مقابل تحصيل المصالح الاقتصادية و تدفق في الحرية الاجتماعية والمدنية.
لذا فإن ارتداد الطبقة الوسطى عن هذه المساومة التاريخية وسعيها للحصول على الحرية السياسية عبر دعم وقيادة الاحتجاجات الراهنة، هي العاصم بالنسبة لها من قواصم السياسة أو فقدان مصالحها الحيوية مرة أخرى. لكن حسب ظني أن هذه الطبقة في ظل سعيها الحثيث للحصول على الحرية السياسية لا تحبذ إسقاط الدولة او السلطة المركزية لأن ذلك يتناقض مع مصالحها ولكنها تسعى لتغيير قوانين ووجوه اللعبة وإدخال لاعبين جدد للساحة السياسية على حساب رموز السلطة التي حرمتهم من امتيازاتهم التاريخية حسبما يظنون.
ومن الواضح إذا صح خيط هذا التحليل أن الطبقة الوسطى تجد نفسها على النقيض تماماً مع تحالفات الهامش الذي يستهدف في الأساس إسقاط الدولة وسلطتها المركزية وإعادة هيكلة السياسة السودانية بإدخال طبقات الهامش على حساب امتيازات الطبقة الوسطى.
لذا نجد في المشهد السياسي الموار بالتغيير، أمشاجاً لتحالفات متعددة تسابق بعضها البعض على إحداث التغيير وفقاً لأهداف كل جهة على حدة، فمثلاً بعض الكيانات السياسية ذات الطابع الأيديولوجي تسعى لإسقاط النظام تحت شعار (تسقط بس) دون معرفة من البديل أو كما قال هيكل بعد أكتوبر في السودان (ثم ماذا بعد؟)، لكن قناعتي أن الطبقة الوسطى بحكم مصالحها الطبقية زاهدة في إسقاط الدولة المركزية مقابل بديل من الهامش لم تتضح ملامحه بعد، لأن حركات الهامش بكل بساطة تستمد شرعيتها ليس من تاريخها النضالي بل من قوة السلاح، وهي بحكم انحيازاتها الأيديولوجية ترياق مضاد لكتل الأفندية الثائرة في الخرطوم خوفاً من إعادة إنتاج ذات المنظومة السلطوية التاريخية التي ترتكز على إرث نخب الوسط النيلي..
لكن يبقى مأزق السلطة هو كيفية تعاملها مع أجندة التغيير التي تتبناها الطبقة الوسطى بعد أن غيرت قواعد اللعبة، وخلعت يد الطاعة عن السلطة المركزية بعد أن تنكبت طريق المساومة التاريخية. وفي ظني المتواضع أن تطلعات الطبقة الوسطى في الوضع الراهن لن ترضى بديلا عن حريتها السياسية لتأمين مصالحها بعد أن فشلت تجربتها السابقة، وهي استخدام هامش الحرية النسبية الممنوح وفق المساومة المذكورة مقابل مصالحها الاقتصادية وامتيازاتها التاريخية.
ولعل العامل المشترك الذي يمكن أن تبنى عليه شراكات جديدة هو الحرص على بقاء واستقرار الدولة وسلطتها المركزية ولكن بإصلاحات جذرية شاملة، وأن تدخل الطبقة الوسطى ضمن نسيج السلطة وليس مجرد ضامن لها كما كان في السابق، بما يعني أن تكون سياسات الدولة وميزانيتها موجهة لخدمة الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعبر عنها الطبقة الوسطى، بما في ذلك الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تقود إلى تحول ديمقراطي ينال رضى كل الأطراف دون إستحداث أي قانون للعزل السياسي. إذا نجحت هذه المقايضة الجديدة التي ستتم على أساس إنجاز تغييرات جذرية في الحكم والسياسة، يمكن للسودان أن يكتب فصلاً جديداً في تاريخه السياسي الحديث، وذلك لأن الحراك السياسي والاجتماعي الذي ستحدثه الطبقة الوسطى باعتبارها الفاعل الأمضى أثراً والأعمق تأثيراً، والكتلة الأكثر تماسكاً ستكون هي من يصنع الملك king maker لكنها إذا تحولت لتكون الملك نفسه ستخسر بلا شك أفق مساومتها التاريخية كمعادل موضوعي لانحرافات السلطة في السودان. وبالطبع إذا فشلت هذه المقايضة فإن دونها الطوفان الذي يغرق الجميع.
ويقيني الثابت أنه ليس من مصلحة الطبقة الوسطى استعادة الديمقراطية الشكلانية الصورية الأبوية المنزع التي حكمت السودان من قبل لأنها تحمل أسباب فشلها بين أحشائها، ولكن بناء ديمقراطية ليبرالية حقيقية تخرج السودان من الأفق التاريخي المظلم. ولعل مقولة الاستاذ عبدالعزيز الصاوي تصلح للتداول أنه لا ديمقراطية دون استنارة، ولا ديمقراطية دون ديمقراطيين.
كشفت مجلة ( السياسة الخارجية) عدد يوليو 2018 ولحقتها مجلة (الاطلنطي) The Atlantic عدد أكتوبر 2018 عن تراجع مخيف في مؤشرات الديمقراطية في العالم. وكشفت دورية السياسة الخارجية في عنوان عددها الرئيس Is Democracy Dying عن تراجع مريع في الأفق الديمقراطي الليبرالي جراء موجات الشعبوية وتراجع الدول الكبرى عن التزاماتها التاريخية، بل سعيها الحثيث للسيطرة على مقاليد السلطة وإضعاف مكانيزمات المراجعة والإصلاح الداخلي. أصبحت التحولات الديمقراطية مأزومة بالواقع العالمي جراء الرأسمالية المتوحشة، و العولمة التي أذابت الهويات، وازدادت فيه الفجوة بين الطبقات والأمم والشعوب واختلت فيه موازين العدالة إذا ازداد الأغنياء غنى والفقراء فقراً.
عندما خرج بنجامين فرانكلين من المؤتمر الدستوري عام 1787 سألته سيدة: ماذا أنجزتم لنا في الدستور. أنظاماً ملكياً أم جمهورياً؟ فرد عليها قائلاً: نظاماً جمهورياً إذا استطعتم المحافظة عليه. ولا تبعد هذه المقولة النجعة عن ما قاله الزعيم الأزهري " جلبنا لكم الاستقلال مثل صحن الصيني لا فيهو شق لا فيهو طق"، لكن الأديب الراحل معاوية نور الذي توفي قبل أن يحتفل بالاستقلال الذي ناضل من أجله قال" أخشى أن يأتي الاستقلال فارغاً من كل معنى".
الخوف أن ينتج الحراك السياسي الراهن فوضى وحرباً أهلية إذا سقطت السلطة المركزية، وهو سيناريو ربما يكون مستبعداً حتى الآن حسب المعطيات الراهنة ولعدم نضوج أسبابه المنطقية، أو أن تنجح السلطة في احتواء هذه الاحتجاجات وتلتف عليها لتصنع إصلاحاً وتحولاً سياسياً وتغييراً فارغاً من اي معنى، حسب تعبير معاوية نور، و لا يخاطب جذور الأزمة السودانية. حينها تستبين رواهش الغضب حشفاً وسوء كيلا، لذا لا بد من مساومة تاريخية جديدة مع الطبقة الوسطى وفق شروطها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.