يتذبذب سعر صرف الدولار في مقابل الجنيه السوداني صعودًا وهبوطًا في الأسواق غير الرسمية منذ أن بدأت ارهاصات خروج حسابات البترول من الميزانية، بل وقبل ذلك بكثير مرتبطًا بالكثير من المخاوف من الهزات الارتدادية لعملية انفصال جنوب السودان. فمنذ أن بدأت رياح التغيير تهب بزعابيب وأتربة نيفاشا غشيت أعين السوق غشاوة كثيفة لم يستطع معها الا أن يلملم في هلع أطراف العملة الصعبة المبعثرة ما بين واردات ماليزيا والصين وواردات مصانع الكيماويات التي ربما تفلح في تغيير سحنة أهل خط الاستواء رغمًا عن أنف شموسه فاستحالت حتى الصيدليات الى شبه متاجر تبيع الجمال المصنوع بعد أن عز الدواء، ثم لم تستطع عقلية السوق المنتشية والسكرى بروائح النفط الا أن تملأ أرفف السوبر ماركت والبقالات بالآلاف من الأصناف المؤذية والمسرطنة لجسد الإنسان وجسد الاقتصاد على حد سواء وغيرها وغيرها من سلع ساقها انفتاح كبير غير مرشد فتحولت كل اقتصاديات السوق إلى عرض حاد من أعراض المرض الهولندي المرير. وتراجعت كل المشروعات المنتجة والصناعات التي كانت حتى وقت قريب تفتح العديد من البيوتات الممتدة بطيبة وسماحة أهل السودان. وأصبح السوق عقب شروق كل شمس يحبس أنفاسه انتظارًا لجديد ذلك اليوم، ويتقافز وأهل مكة أدري بشعابها أهله هنا وهناك بحثًا عن معلومة عن آخر الأخبار والمستجدات، وبالضرورة آخر ما بلغه «السعر» بينما هم نيام ان كانت الثعالب تنام. فإذا كان الخبر هو زيادة ولو طفيفة فإن كل شيء وبلمح البصر يرتفع ثمنه ولو كان بضاعة تنام في أرفف المخازن منذ شهور وربما سنوات. وان كان الخبر هو مجرد توقع بزيادة ما كنتيجة لتوقع ما، أو لشيء ما ، فإن كل البيوعات الكبيرة تتوقف ريثما ينجلي الموقف، وربما قاد ذلك لإغلاق نوعي زمني لعدد من المتاجر. هذه الطبيعة الغريبة التي أصبحت سمة من سمات الحركة التجارية في أغلبية تعاملات السوق ولا نقول كلها حتى لا نظلم فئة من التجار نظن أن الله قيضهم ليحفظ بهم أماكن الأسواق أن يخسف بها من ظلامة التعاملات التي تتم داخلها. نقول إنها أضحت ظاهرة مقلقة وتستدعي مراجعة كل السياسات الاقتصادية بشقيها المالي والنقدي. وبالضرورة مراجعة سياسة التحرير الاقتصادي التي أصبحت لها آثارها السلبية الموجعة للقطاعات المستهلكة، للحد الذي يكاد يفرغها من مضمونها، فهي وان استطاعت أن تؤدي الى توفير السلع الى حد كبير، الا أنها جعلت هذه السلع في حكم الندرة من حيث عدم مقدرة الكثيرين على شرائها لارتفاع أسعارها. ويكاد الارتباط الذي وضعه السيد عبد الرحيم حمدي وزير المالية الأسبق والأب الشرعي لسياسة التحرير، بين هذه السياسة كعلاج ناجع لأوضاع كانت متأزمة، وبين أخلاقيات التاجر والسوق بكلياته «في حوار تلفزيوني قبل شهور» والتي نقول إنها بلا شك علاقة وجودية بحيث إنها اذا انتفت فإنها تنسف السياسة بكاملها. هذه العلاقة الآن هي في حكم العدم أوكادت، فماذا يتوقع منها بعد؟؟ ومن أكثر الأشياء التي تدفع الى الحيرة..، الضحك..، وربما الدهشة ولكن بكل تأكيد ليس الإحباط، ما ظل يفعله الكاتب الأستاذ اسحق أحمد فضل الله طيلة الفترة الماضية بسوق العملات غير الرسمية بالطبع فقد ظل «لمن كان يتابع حركة الدولار صعودًا وهبوطًا في الفترة الأخيرة»، ظل يتلاعب بسعر الصرف في السوق الأسود بكلمة تتناقلها عن «الانتباهة» مجالس المضاربين وتسري بها ركبانهم. فحينما تنبأ بارتفاع قيمة الدولار مقابل الجنيه بما يقارب الستة جنيهات، ماج السوق واضطرب وتوقف كل شيء وأصبحت الأجواء خلاء من كل رائحة أو شبه رائحة للدولار. ثم لما حملت عنه الزواجل بعض أنباء عن ضخ ملايين الدولارات في شرايين الاقتصاد بدعم من قطر، ارتعب كل شيء وجرى الكل يفرغ ما في جوفه من عملات وامتلأت أوردة السوق بالأخضر « سيد الاسم ». اسحق...اسحق، انهم يتساءلون: ما الذي يفعله هذا الرجل!! الملاحظة السابقة هي بلا شك ليست من نسج الخيال وهي كذلك ليست قراءة خارقة اخترقت حجب الغيب، بل هي رؤية عين لواقع لم يتطلب كبير جهد لإدراك حجم الغياب «لضمير» أصبح كالرخ والخل الوفي. هي أزمة ضمير، وهي أزمة قيم، وهي أزمة شعور بالمواطنة قبل كل شيء. لكن.. هي من ناحية برغم تقاطعها مع قصور ذاتي في حركة الاقتصاد، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن كثيرًا من أزماتنا ما هي إلا مجرد بالونات تنتفخ بلا شيء سوى بعض المصالح الذاتية الضيقة.