ظلّ كثير من الناس يجهلون الدور الجهادي الكبير الذي قام به مؤسس حركة الإخوان المسلمين في السودان الشيخ علي طالب اللّه، وأول مرشد للحركة في البلاد... تفاصيل كثيرة في حياة الرجل، ومجاهداته، وكفاحه ونضاله ضد الإنجليز، والماسونية، غطّاها غبار النسيان، والتجاهل أحيانًا عن عمل من منافسين له في غمرة الصراع السياسي الذي بدأ مبكراً.. تفاصيل ضرورية ومثيرة ومهمة للتوثيق لم يعلم بها إلا أبناؤه وأرملته الحاجة الروضة عمر أحمد، لأن الشيخ طالب اللّه كان يرفض رفضاً باتاً فكرة التوثيق تجنباً للفتنة وخوفاً من الوقوع في المداهنة والتماهي وقول الزور، حيث كان يقول في تبريره لرفضه التوثيق: إما أن أصدع بالحقيقة كاملة دون مجاملة لأحد، وحينها لن يتحمل أحد هذه الحقيقة المُرة، وإما أن أُداري وأماري وأداهن وأنافق، لذلك اختار الشيخ طالب اللّه اللواذ بالصمت دون الحاجة لتوثيق نشأة الحركة الإسلامية وما جرى في دهاليزها، وهو مؤسسها وكيف كان الصراع مريراً مع الذين انقلبوا عليه وأطاحوه، بدفع من أيادٍ خارجية يُعتقد أنها مأسونية.. في هذه المساحة أخذنا القليل من كنوز الأسرار التي ظل يعتمل بها صدر الشيخ طالب اللّه ولم يبُح بها إلا لابنيه أبو المكارم وعاصم، وأرملته الحاجة الروضة التي استشفت لتوها من مرض عضال كاد يودي بحياتها في ظل تجاهل رسمي للدولة والحركة الإسلامية لامرأة ضحّت بشبابها كله من أجل حركة الإخوان المسلمين التي احتضنت اجتماعاتها السرية ضد الإنجليز في بيتها عندما كانت الحركة طفلة في المهد وكانت هي الراعية والأم الرؤوم التي لم تجد في الكِبَر إلا العقوق. على كل هذه حصيلة جلسة للتوثيق مع الأسرة أخذت طابع الحوار المفتوح في منتدى مفتوح، شارك فيه أيضاً أبناء الشيخ الراحل طالب اللّه، فإلى التفاصيل: أولاً حمداً للّه على سلامتك؟ الحمد لله أولاً.. وأشكر كل الذين ساهموا في علاجي، وأخص بالشكر البروفسير مامون حميدة وزير الصحة الذي تحمل كل نفقة العلاج من حر ماله، عندما أخبره بمعاناتي مع المرض بحوادث أم درمان ابننا الأستاذ حسين خوجلي، وأشكر كذلك الدكتور علاء الدين وكل الممرضين حيث كانوا يولونني رعاية خاصة واهتمامًا أكبر، جزاهم الله عني كل خير.. هل بادر حسين خوجلي بالاتصال بمسؤولين آخرين في الحكومة والمؤتمر الوطني؟ نعم قالوا اتصل «وهنا تولى الإجابة عن السؤال ابنها «عاصم» وقال: أنا أخبرت الأخ حسين، وزارها في المستشفى «حوادث أم درمان» وكانت وقتها تعاني من مرض القلب، والكبد والتهاب في المرارة، هذا فضلاً عن الجلطة والضغط، ولم تكن الظروف المادية تسمح بإجراء العملية التي تم تحديدها وكان في حساباتنا أن نأخذها إلى مستشفى البقعة، في هذه الأثناء جاءنا الأخ حسين خوجلي بالمستشفى، وقال: لا يمكن أن تكون زوجة مؤسس الحركة الإسلامية في السودان تتلقى علاجها في مستشفى عام، وفي نفس اللحظة اتصل بوزير الصحة الدكتور مامون حميدة، وقال له بالحرف الواحد «أم المؤمنين» الآن بمستشفى أم درمان وتقررت لها عملية، واتصل كذلك بوالي الخرطوم الدكتور عبد الرحمن الخضر ولم يجده بمكتبه ووجد مدير المكتب وأبلغه بالأمر، والدكتور مامون حميدة تكفل بالعلاج على نفقته الخاصة، وذهبنا إلى مستشفى يستبشرون والعملية كانت صعبة استغرقت خمس ساعات. يعني ما حدث مجهود فردي من مامون حميدة ومبادرة فردية من حسين خوجلي، أليس كذلك؟ نعم تماماً، بل تحمل الدكتور مامون كل العلاج على نفقته الخاصة وليس الوزارة ولم يكن هناك أي مجهود من الحكومة والمؤتمر الوطني. لكن هل أبلغتموهم بمعاناة الحاجة الروضة، والظروف المحيطة بكم؟ (عاصم يتولى الإجابة عن السؤال للمرة الثانية في حين أن حاجة الروضة اكتفت بالقول أنا ما بلوم زول) فيقول عاصم: أنا شخصياً أجريت اتصالات بقيادات في الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني. مثل من؟ المهندس السعيد عثمان، وقال لي ربنا يشفي الوالدة ونحن سنتابع الموضوع، وعندما رجعت له المرة الثانية قال لي أنا متابع مع الجماعة، لكن الواقع يؤكد أنه لا توجد أي متابعة، رغم أنني قلت له إننا نريد وقفتكم معنا كحركة إسلامية ولم أقل له كمؤتمر وطني، وعموماً لم يكن للحركة الإسلامية أو المؤتمر الوطني أي استجابة أو أي دور، ونحن عندما اتصلنا بهم نسبة لدور الوالدة الكبير الذي لعبته لمدة ستين عامًا في الحركة الإسلامية التي نشأت في بيتها هل بعد هذا الدور لا تستحق أي رعاية من الحركة الإسلامية، وهي تعاني من المرض، وقد قدمت تضحيات كثيرة وضحّت بشبابها ووقتها وراحتها من أجل الحركة الإسلامية، ومع ذلك نجد أن الدولة تكرم المغنيات أفلا تستحق الوالدة مع ذلك الدور الكبير التكريم والرعاية.. وهذا حقها، وحتى الحق المعنوي لم تحصل عليه، وكنا نعتقد أن يأتي الوالي ويزور الوالدة في المستشفى أو نحوه. قلت للحاجة الروضة، هل تشعرين بمرارة التجاهل، وأنت التي رعيت الحركة الإسلامية في بيتك حتى شبت عن الطوق؟ (قالت بصوت ينضح بالأسى والصبر) والله يا ولدي فعلاً الحركة الإسلامية نشأت وترعرعت هنا في بيتي، لكن يا ولدي أنا لا ألوم أحداً ولا أرغب في توجيه اللوم للناس، ولكن أجدد شكري لكل الذين ساهموا في العلاج وجزاهم الله خيراً. حسناً، حدثينا عن الشيخ علي طالب اللّه؟ الشيخ علي كان متواضعاً، وكريماً، وخلوقاً وصالونه عبارة عن منتدى للمحاضرات والسياسة، ويأوي أعداداً كبيرة من طلاب العلم، وكان يعمل بوزارة الزراعة، وتخرج في كلية غردون وعمل في دواوين الحكومة ثم استقال منها وتفرغ للعمل السياسي وتنقل في دواوين الحكومة بمصلحة الزراعة وعمل بمدني وعدد من المدن. وكان متزوجًا من فاطمة محمد فرح وهي من بنات القطينة وهي زوجته الأولى. هل أنجب منها أبناء؟ كان له منها حسن وعمر، وصالحة وأصيلة. ذكرت أنه استقال من الحكومة وتفرغ للعمل السياسي، ما الهدف من هذه الخطوة؟ هو كان يقول إنه يريد أن يتفرغ لمقاومة المستعمرين الإنجليز، ويعمل على إجلائهم من البلد. كيف بدأت تفاصيل مقاومته للإنجليز؟ بعد تقديم استقالته من العمل مع الإنجليز اهتم بالجوانب السياسية وكان أيضاً مديراً للجريدة الناطقة باسم مؤتمر الخريجين. وكانت مقاومته للإنجليز بدأت بصورة فعلية عندما بدأ يحرض الموظفين الذين كانوا يعملون في حكومة الإنجليز والإداريين الذين تخرجوا معه في كلية غردون، وقد قرروا أن يتركوا العمل في الحكومة بإيعاز من الشيخ علي طالب اللّه، وأنشأوا المدارس الأهلية في كل نواحي السودان كحركة وطنية أكثر مما أنشأ الإنجليز، وأنشأوا الجمعيات والنوادي وكونوا نادي الخريجين الذي كان كل أعضائه يجتمعون هنا في هذا المنزل، وأنا أتفرغ تماماً لخدمتهم من أكل وعصير وشاي ونحوه. هل كانت اجتماعاتهم سرية؟ نعم سرية تماماً. هل كان هذا النشاط يسبب له أية مضايقات من جانب الإنجليز؟ كانت هناك مضايقات واعتقالات لكن لم يعتقلوه للاجتماعات السرية، لأنها كانت تقوم بسرية شديدة، ولكن سبب الاعتفال الأول الذي تعرض له، هو أن الشيخ على طالب اللّه كانت له علاقة طيبة بضابط الصيانة بالجيش المصري محمد عاشور الذي كان يعمل بالسودان ضمن الري المصري، وعندما شعر الإنجليز بهذه العلاقة الوثيقة أبعدوا الضابط المصري، ونقلوه إلى مصر، فتجمع الناس لوداعه بالسكة حديد وخاطب الشيخ علي طالب اللّه ذلك الحشد، وسيّروا مظاهرة. هل كان الضابط عاشور من الإخوان المسلمين؟ نعم كان مسؤول الإخوان المسلمين في السودان، وكان يتحدث في المساجد عن ضرورة طرد الإنجليز من البلد، وكانت له علاقة وثيقة بالشيخ علي طالب اللّه، وكانوا جميعهم يتحدثون عن تحرير البلد من الإنجليز والكفاح والمقاومة. ألهذا السبب أبعد الإنجليز محمد عاشور؟ نعم، وقد استدعى الإنجليز الشيخ علي طالب اللّه، وأخطروه وقالوا له نحن نعلم بتحركاته ولا نريد أن يتسبب في مشكلة بين حكومتي مصر وإنجلترا إن نحن قمنا باعتقاله، لذلك سوف ننقله إلى مصر، وبالفعل نقلوه ولحظة الوداع، الشيخ علي طالب اللّه ألقى خطبة طويلة وهتف وقال لازم نحرر بلدنا من الإنجليز، وفي نفس اللحظة قاد المظاهرة حتى دخل بها الخرطوم وكان الشيخ علي طالب اللّه يحمل في شنطته «مسدس»، وكان أحد أفراد المخابرات يعرف أن الشيخ يحمل داخل الشنطة مسدسًا فوشى به وأبلغ الإنجليز بالأمر وأبلغهم أين توجد الشنطة، وأين ينام الشيخ وأين يوجد المسدس، وكان في ذلك الوقت وعندما انفصل عن زوجته الأولى طلب منه والدي أن يأتي إلى منزلنا بحي العرب، ويكون بمعية إخوتي ب «الصالون». في ذلك الوقت لم يتزوجك؟ نعم. نعود إلى قصة المسدس، وماذا بعد أن بُلِّغ الإنجليز أن الشيخ طالب اللّه بحوزته مسدس؟ هو طبعاً الإنجليز بلغهم خبر أيضًا أن الشيخ طالب اللّه يريد قتل الحاكم العام، هذا الشخص الواشي أخبرهم بمكان الشيخ علي بالضبط لذلك أتوا إلى البيت، وكنا نائمين، بعض الشرطة «قفزوا» بالحيطة، والبعض انتظر حتى فُتح لهم الباب وكان بعض العساكر سودانيين والبعض الآخر إنجليز، وجاءوا وبحثوا بدقة وفتحوا الشنطة وأخذوا المسدس وذهبوا. وبالطبع اعتقلوا الشيخ طالب اللّه؟ لا.. في ذلك الوقت لم يكن موجوداً بالمنزل. أين كان؟ كان بنادي الخريجين، وفي ذلك الوقت تصدّى شقيقي «الطيب» للمسألة وقال لعساكر الإنجليز المسدس حقي أنا، وبعد ذلك ذهب أخي الطيب إلى نادي الخريجين وأبلغ الشيخ طالب اللّه بالخبر، وقال له إن العساكر جاءوا وأخذوا المسدس وأنا قلت لهم حقي، لكن الشيخ رفض ذلك وقال له المسدس حقي أنا وأنا الذي أتحمل مسؤوليته وليس لك في هذا الأمر شيء، ولن أنكر أبداً، ورفض الاختفاء من الإنجليز، وفي ذلك الوقت جاء علي طالب اللّه إلى البيت وخلع البنطلون والبدلة وارتدى الجلابية وجهز شنطته وأصبح جاهزًا للاعتقال في انتظار عساكر الإنجليز الذين ذهبوا للبحث عنه في النادي، وعندما ذهبوا إلى النادي ولم يجدوه جاءوا إلى المنزل مرة أخرى فوجدوه جالساً على كرسي في الشارع ينتظرهم، ولما جاءوا قالوا له هذا المسدس، وجدناه في شنطتك، هل هو حقك قال لهم نعم حقي و«شال عصاتو» ومشى معهم، واتخذوا ضده الإجراءات وبعد ذلك خرج بضمانة إلى حين المحاكمة، وكانت فترة الضمانة شهرًا، وفي هذا الشهر طلبني من أبوي وأتزوجني وبعد «15» يومًا من العرس جاءوا وقبضوه وساقوه للمحاكمة وحاكموه بثلاثة أشهر، يعني لم يكن خائفًا منهم إطلاقاً. هل تعرض لاعتقال آخر من الإنجليز؟ بعد الثلاثة أشهر سأله أحدهم «الإنجليز» باستهتار: «انت يا طالب اللّه ليه تخت المسدس في شنطتك»، طوالي طالب اللّه وضعه له في رقبته وقال «عشان اقتل بيهو زي نوعك دا» لذلك أكملوا له مدة السجن سنة كاملة بعد استئنافه الأول وقضى بالسجن العام كاملاً.. مَن مِن السياسيين كان معه في السجن؟ كان معه في السجن آنذاك محمود محمد طه. هل اعتقلوه لذات أسباب المظاهرة؟ محمود اعتقلوه في مظاهرة أخرى، كانت المظاهرة ضد ختان الإناث «الخفاض الفرعوني» وقضيته كانت مختلفة والشيخ طالب اللّّه وجده في السجن، ومحمود قضيته اجتماعية والشيخ قضيته سياسية. وماذا بعد الإفراج عنه وإكمال المدة؟ نشاطه ضد الإنجليز لم يقلّ، وكان دائماً في دوامة الاجتماعات السرية، وبعد ذلك رحلنا إلى حي الملازمين واستأجرنا منزلاً كبيراً والنشاط ايضًا كان مستمرًا، وكثير من الناس دخلوا معه في حركة الإخوان المسلمين، وحتى إخواني أنا دخلوا معه في الحركة مثل شقيقي «إبراهيم» وكنت أنا وزوجة حماي نقوم بخدمة الاجتماعات من مأكل ومشرب وكل المتطلبات. هل انحصر دور المرأة آنذاك في خدمة الاجتماعات من مأكل ومشرب أم كان لكنّ أدوار سياسية أخرى؟ لا.. لم يقف دورنا في الخدمة فقط، وكنا أيضاً نطبع المنشورات في المكنة، وكنا نقوم بهذا الدور أنا وزوجة حماي وحميدة محمد الشيخ وهي مصرية، وزوجة مصطفى طالب اللّه، وعائشة حاجة الطاهر ابنة أخ الشيخ طالب اللّه، ونحن مكلفات بطبع الورق بعد أن يحضروا لنا الشمع، والكربون، والورق الأبيض، والشباب الموجودون مع الشيخ يقومون بتلصيق المنشورات وتوزيعها. في الحلقة القادمة: قصة هروب الإخوان المسلمين من مصر بعد تعذيب عبد الناصر لهم، وإخفائهم بمنزل الشيخ طالب اللّه. مطالبة عبد الناصر للأزهري بتسليم الإخوان الهاربين. كيف هرّب الشيخ طالب اللّه الإخوان المستجيرين الى خارج السودان.. وحكايات أخرى مثيرة تُنشر لأول مرة!!