في مساء السبت التاسع والعشرين من شهر رمضان للعام الميلادي 1968 كان كل المسلمين في بقاع الأرض يترقبون رؤية شهر شوال، وكان منزل سعيد حسين بحي أكتوبر شمال بمدينة القضارف يترقب مولوداً ومع انحسار نور ذلك اليوم وبداية قسمات المساء حل الشهر معلناً قدوم العيد، في ذات الأثناء صرخ مولود ذكر معلناً إشاعة الخير والفرح لأسرته، أطلقت عليه والدته الحاجة حسينة بت شعيب اسم «مهدي» تيمناً باسم شقيقها مهدي شعيب، ترعرع الفتى تحت كنف والديه ووسط إخوانه: «رقية، عائشة، آمنة، عواطف، علي، وإبراهيم» يملأ عليهم المنزل حبوراً فبالإضافة للبسمة التي لا تفارق محيّاه البتّة كان آخر العنقود، كان محبوباً بين أقرانه بالفريق، يتزعم مجالس أنس الصبا، بدأ حياته التعليمية بمدرسة ديم بكر الجديدة، ثم ديم بكر المتوسطة ومدرسة القضارف التجارية .. تخرج في جامعة القرآن الكريم كلية الإعلام قسم الصحافة والنشر، وحصل على درجة الماجستير من ذات الجامعة، وبدأ في رسالة الدكتوراه إلا أن القدر كان أسرع، عمل في منبر سونا للأنباء، وفي تغطية أخبار مجموعة من الوزارات الحكومية مثل الصحة، وراسل صحيفة «الإنتباهة» منذ إنشائها، خلّف من الأبناء «عبداللطيف وسعيد، والتوأم عسجد وساجدة». الرحيل المر في صباح يوم السبت أمس الأول فجعت مدينة القضارف برحيل الإعلامي الهميم والصحفي الضليع «مهدي سعيد»، كانت المصيبة أشد وقعاً على النفوس لأن الرحيل كان مفاجئاً ومن غير وداع، فقبل لحظات من رحيله كان يتحدث مع بعضهم تلفونياً، لذا صعب عليهم تقبُّل الأمر، كانت حياته كسحابة عابرة أبهجت برذاذها من حولها في معتركات الحياة الكالحة ثم رحلت مخلِّفة غيوماً من الأحزان، ما بين مصدِّق للخبر ومكذب له رحل «مهدي» وصرخات والدته تملأ الديار، ونحيب الرجال يمتزج بعويل النساء والأطفال، فتعزف سمفونية فاجعة الوجدان «لقد رحل فارس الحوبة» بعد أن سطّر اسمه بأعمال جليلة محفورة في القلوب. وصيته أن يدعو له بالمغفرة لما كان يعاني من الربو لم يستطع صدره النقي أن يتحمل عكرة جو القضارف في يوم الخميس فدخل مشفاها طالباً للأكسجين وعلاجات الأزمة ومن ثم خرج وقام بالاعتذار هاتفياً لكل من كان بينهم موعد بسبب الوعكة القصيرة، وذهب يوم الجمعة لإقامه صلح بين مجموعتين مختلفتين، ثم قضى ليلتها مع أبنائه لا يعاني سوى ألم خفيٍّ كان يحسه بقرب موعد رحيله، سابق العصافير في الاستيقاظ صباح السبت وبدأ يومه بالذكر وتوجه للمسجد فصلى «الصبح» مع الجماعة، ومن ثم عاد لمنزله ليتهيأ لبرنامجه اليومي المعتاد، في حوالى السابعة والنصف بدأت «الأزمة» تشتد عليه حينها اقترحت عليه زوجته «هادية»أن تقله إلى المستشفى برفقة ابن أخته أحمد إلا أنه أخبرهم أنه لا جدوى من المستشفى فأجله قد دنا والعلاج لا ينفع للأجل، وأوصاهم بأن يخبروا الناس بأن يدعوا له، أصروا أن يحملوه للمستشفى إلا أن روحه كانت مسرعة لمقابلة بارئها فصعدت «بهدوء بهدوء» وغاب «مهدي» للأبد. الفقد الأصعب في حياتنا كان الحزن يلقي بظلال كثيفة على سرادق العزاء، ففي أحد أركانه جلس عبداللطيف أبكر محمد الذي لازمه منذ طفولته، جلس مع خالد نوح، بشير محمد صالح، صابر موسى، محمد محمد صالح، عبد المعطي يونس، عبد الحميد حامد، فهم يفقدون «مهدي» لأنه دائماً ما كان يكون بينهم في «لمّتهم» أخبرنا عبداللطيف أنهم قرروا زيارة آخر موقع اجتمعوا فيه بالمرحوم لعلهم يجدون عزاءً يخفف لهم الألم، وبنبرات مؤلمة حدثنا عن أنه كان رفيقه طول مسيرة حياته وأنه سمى ابنه الأكبر ب«عبداللطيف» على اسمه، أخبرنا أن مهدي كان يحب عمل الخير منذ صباه الغض وأنه نذر حياته لخدمة الإنسانية وسعى لذلك عبر قلمه وأن آخر ما خطه يراعه، كان وثيقة صلح بين مجموعتين مختلفين من الشباب، وقد باركوها، وقد اشتهر في مدينة القضارف بإصلاح ذات البين في كل المجالات السياسية والمدنية. تمنعها الدموع من التحدث تحدث لنا ابن شقيقته ياسر بصعوبة بالغة عن الفقد الجلل وتمنى فقط أن يدعوا له الجميع كما كانت وصيته، وأوصل لنا التلفون لرقية الشقيقة الكبرى للراحل التي تجلّدت وأخبرتنا أنه كان عميد الأسرة وملجأً للصغير والكبير وأنه لن يعوّض، وسألت لأنفسهم الصبر وله حسن المنزلة. أما والدته «الحاجة حسينة بت شعيب» فما أن أخبرها حفيدها ياسر أن زملاءه بالصحيفة يعزونها فيه حتى صرخت ألماً وكأنها ترجع بذاكرتها لأيام مضت في حياته وهي تعوضه حنان الأب وتربيه بعد رحيل أبيه وكأنما ذهبت لأقدم من هذا وتذكرت لويحظات قدومه هلال شوال , بكت بحرقة و«قالت.. وقالت.. » نصمت.. لأن مشاعر الأمومة أصعب من الحقيقة وهي تعاش وبالكلمات لا تقال عندما يبكي الرجال.. بكي صالحين العوض مراسل صحيفة «الرأي العام» حد النحيب، وجاءت كلماته حزينة ممزوجة بالبكاء إنه رافقه من بداية التسعينيات خلوقاً متديناً لم تزده نوائب الدهر إلا إيماناً يعف عند الحاجة ويكتمها وهو يقضي حوائج الآخرين عطوفاً أميناً، فقد تربى في كنف أسرة مشبعة بالدين وكان والده حافظاً للقرآن، فطبق كل المعاني التي استقاها من عمله طوال حياته لم تكن له عدائيات مع أحد، يوجد في مجالس الذكر والخلاوي وفي ميادين العطاء، يدافع عن هموم أهل الولاية بقلمه، وأردف «نشهد أن صحائفه ملأى بالأعمال الجميلة كان يسرع لحل مشاكل الأيتام والمحتاجين، آخر أعماله أن فكر في جمع عدة زوايا متفرقة وشيدهم مسجدًا مكتملاً، كان نقي السيرة والسريرة، كان يذهب للمسؤولين بمعاناة الآخرين في الوقت الذي يعاني منه ابنه الكبير من القلب ولم يستطع أن يوفر له مبلغ «20» ألف دولار لعلاجه غلبه البكاء من تكمله الحديث وناشد حكومة الولاية بتولي أسرته. رحيل «مهدي» فقد أمّة «هرم، فارس مغوار، شيّال التقيلة، أخو أخوان، شهم كريم، ذو خلق نبيل» بهذه الكلمات بدأ ياسر العطار مراسل صحيفتي «الحرة» و«ألوان» حديثه معدداً مآثر الراحل، الذي سبقهم في المجال الإعلامي فاحتواهم بصدق الأخوة على حد قوله وكان معلمهم ومرشدهم في الطريق، يأتيهم بالأفكار، هاتفه يوم الجمعة يخبره باستعدادهم لتدشين منبر السلام العادل، وقام بحثه حتى يلحق بركب الحائزين على بيوت الصحفيين مطمئنه أنه سيدبر له المبلغ اللازم، كان يحب الخير للجميع، وبيّن أن القضارف كلها تتحدث عن نبله فسارعوا لتشييعه بكل مسمياتهم حكومة ومعارضة، قبائل وطرق صوفية، شيباً وشباباً، وقد تحدث المعتمد عمر كابو ود.فتح الرحمن الجعلي ومجموعة من المسؤولين عقب التشييع، وتحسر ياسر على الفقد ووصفه بفقد الأمة وسأل الله له المغفرة.. أما الطيب أحمد الشريف مراسل صحيفة «آخر لحظة» مدير إعلام الولاية، فتعثرت الكلمات في حديثه واكتفى بأن شهد له بأنه عاش بسيطاً ورحل بسيطاً وأنه كان إنساناً قبل أن يكون صحفياً، وكان عموداً فقرياً لولاية القضارف في شتى المجالات، وأن حياته كانت معاني يجب تأملها، وأخبرنا بأن آخر حديث بينهم عن تكوين ميثاق شرف لرابطة مراسلي القضارف حتى تخدم كتاباتهم المواطنين، وقال إنه لم يرَ حشدًا لوفاة أحد مثلما رأى، وغلبه الحديث عندما تحدث عن دموع الرجال.