البداية كانت مجرد خاطر «استثماري»، دهم أحد عباقرة الاستثمار.. وكان هذا العبقري قد جرَّب قبل ذلك إنشاء معمل ضخم، مهمته تعبئة الماء من النيل في قوارير، وبيعها للجمهور باسم «مياه صحية»، فأقبل على إنتاجه كل مرضى الوسواس القهري، ثم تبعهم عامة الناس حين انقرض باعة الماء المثلج من الأسواق بفضل جهود الحكومة في «تجميل المدينة» حيث كان جزءاً مهماً من ذلك «التجميل» تنظيف المدينة من مشاهد الصبيان الذين يحملون آنية الماء ويجوبون الأسواق.. فضلاً عن المسؤولية الصحية الملقاة على عاتق الحكومة تجاه مواطنيها، حيث قال الخبراء إن ذلك الماء الذي يباعُ في الطرقات عُرضة للتلوث ونقل الأمراض، مثلهُ مثل لبن «حليمة، بائعة اللبن»!! كان السؤال الذي أنجب فتحاً استثمارياً هو: لماذا لا ننشء معامل «للهواء الصحي»، يتم فيها تعبئة «الأوكسجين» النقي في أسطوانات، بغرض طرحها للجمهور في الأسواق، ثم يتم تثقيف الجمهور وتنويرهم بأن أوكسجين الطبيعة الذي يستنشقونه «غير صحي»، ملوَّث، ومضر بالصحة، وأنهم لكي يحتفظوا بصحتهم كاملة، لأطول فترة ممكنة عليهم الاقتصار على استنشاق «أوكسجين الصحة»؟! ولم تنس الشركة الرائدة في مجال تعبئة «الهواء» أن تطرح إنتاجها للجمهور بأسعار زهيدة، بل يمكن أن يقال عنها «رمزية»، بحيث تكلف «فاتورة الهواء» للأسرة المتوسطة، ربع قيمة فاتورة الماء. ولكن الأمر في مدينة «إفلاطونيا النموذجية» لم يتوقف عند هذا الحد، فسرعان ما غضبت الحكومة، لأسباب تعلمها، من صاحب شركة تعبئة الهواء، فتجاوزت العقد الذي يخول له احتكار الصناعة، وفتحت الباب واسعاً لكل من يريد الاستثمار في تعبئة الهواء، فنشطت عشرة مصانع لتعبئة الهواء، وأدى ذلك إلى انخفاض الأسعار سريعاً، الأمر الذي أقلق جميع المستثمرين، فاجتمعوا للتشاور حول مستقبل صناعتهم الرائدة. وكان ما استطاعوا الاتفاق عليه، هو إنشاء «الاتحاد العام لمنتجي الهواء الصحي»، الذي يتولَّى تهيئة كل الظروف الممكنة لازدهار هذه الصناعة، بما في ذلك إلزام جميع المنتجين بسقف مجزٍ للأسعار، ثم إلزام جميع «المستهلكين» بشراء الهواء الصحي وبالأسعار التي تم الاتفاق عليها بين المنتجين!! ما احتاج إلى عبقرية حقيقية، كان هو البند الثاني، المتعلق بإلزام المستهلكين بالاقتصار على الهواء الصحي، وعدم استنشاق أي هواء آخر.. فقد استطاعوا الإفادة من بعض تقارير المنظمات الصحية العالمية، التي تتحدث باستفاضة عن تلوث أجواء المدن، بعوادم السيارات وعوادم المصانع، فقام الاتحاد العام لمنتجي الهواء الصحي بتأجير صحيفتين اجتماعيتين اختصهما بكل إعلانات الشركات المنتجة للهواء، بالإضافة إلى رواتب رئيسي التحرير وكبار المحررين، ثم كلفهما بالحديث كلما أمكن عن تلوث الهواء، وإجراء ما تيسر من حوارات مع اثنين من أصحاب مصانع تعبئة الهواء كانا طبيبين قبل أن يتجها إلى الاستثمار، بعد تكليف الرجلين بالحرص الكامل على طرح رؤيتيهما بوصفهما طبيبين حريصين على صحة الشعب البطل، وليس بوصفهما مستثمرين في تعبئة الهواء. لم تلبث الصحيفتان أن قادتا حملة تثقيفية صحية، وجهتا فيها الحكومة إلى القيام بمسؤوليتها حيال صحة الأمة، وذلك بإصدار قانون يجعل استنشاق الهواء من الجو مباشرة «جُنحة» مثل تناول المخدرات، وشروعاً في الانتحار، لأن الهواء الطبيعي ملوث ويُمكن أن يؤدي إذا استمر استنشاقه لمدة سبعين عاماً إلى آثار خطيرة على صحة المستنشق وربما موته متأثراً بالسموم المتراكمة جراء تنفسه هواء «غير صحي» .. حين تباطأت حكومة جمهورية إفلاطونيا النموذجية عن إصدار القانون المقترح أعلاه، قام «اتحاد منتجي الهواء الصحي» بتناسي الأمر مؤقتاً، وفي ذات الوقت تم تدشين «الجمعية الخيرية لمنتجي الهواء الصحي» التي راحت تتبرع للدولة ببناء عدد كبير من المستشفيات بكامل معداتها ورواتب الأطباء والعاملين فيها، وفي ذات الوقت راحت الجمعية تقيم الاحتفالات تكريماً لبعض الشخصيات المهمة بالدولة، اعترافاً بعطائهم ووطنيتهم، ثم تفتح لهم حساباً مجانياً للعلاج لهم ولأسرهم في المستشفيات ذات النجوم الخمس التي أنشأتها الجمعية، وهي المستشفيات التي يمنع فيها منعاً باتّاً استنشاق الهواء من الجو، ويمنح جميع المرضى والعاملين أنابيب الأوكسجين مجاناً.. ويحذِّر الأطباء فيها مرضاهم من استنشاق الهواء الملوث.. وتقول جميع تقارير التشخيص بتلك المستشفيات إن أسباب الأمراض كلها هي استنشاق الهواء العادي الملوث. بعد عدة أشهر كان عدد من السادة الوزراء في جمهورية إفلاطونيا قد اقتنعوا بضرورة إصدار قانون يحرم استنشاق الهواء من الجو مباشرة، مؤكدين أن صحة الأمة خط أحمر لا يمكن التلاعب به .. وبعد عامٍ واحد كان سكان جمهورية إفلاطونيا النموذجية قد اعتادوا على حمل أنابيب الأوكسجين معهم أينما ذهبوا، واعتادوا أكثر من ذلك التبليغ الفوري على كل من يضبط متلبساً باستنشاق الهواء من الجو مباشرةً، باعتباره مخالفاً للقانون، الذي كان قد صدر. سكان جمهورية إفلاطونيا اليوم لا يعانون كثيراً من فاتورة الهواء التي انضافت إلى فاتورة الماء الصحي «كانت السلطات قد منعت قبل بضعة أعوام شرب الماء من الماسورة أو من النيل أو من أي مصدر ما عدا قوارير الماء الصحي».. وهُم لا يشكون في أن صحتهم قد أصبحت أفضل حالاً، وقد أعادوا هيكلة موازناتهم الشهرية لتستوعب فاتورة الهواء الصحي.. ولكن القليل من الفقراء تحولوا إلى خارجين على القانون، يستنشقون الهواء من الجو، ويؤخذون إلى السجون.. ولا تتعدى نسبة هؤلاء الخمسين بالمئة.