{ السياسة الخارجية كما يقول خبراء السياسة انعكاس للسياسة الداخلية، كما أنها جزء لا يتجزأ من إستراتيجية الدولة، وتعمل في توافق مع السياسة الداخلية حتى لا يحدث تناقض بينهما. وقبول أي دولة باحترام إنما يتأتى من استقلالية سياستها الخارجية والتي هي انعكاس للسياسة الداخلية! { وحتى لا يكون الحديث نظرياً ومجرد (طق حنك) أورد مثالاً عملياً يعكس صحة ما أكتب قضايا الجنوب ودارفور والمناطق الثلاث كلها تدخل في نطاق السياسة الداخلية ولكن كل هذه القضايا خضعت للحلول الخارجية، إذ فرضت اتفاقية ما يسمى بالسلام والتي تم وضع بنودها في هايدلبرج بألمانيا وتمت عملية إخراجها مع معهد الدراسات الخارجية الأمريكي (CSIS) وتم توقيعها بواسطة طرفي النزاع، وكذلك فرض دخول قوات اليوناميد إلى دارفور ثم فرضه من الخارج وكل هذه قضايا داخلية بحتة كان تأثير الخارج عليها مباشراً، وكانعكاس لهذه السياسة الداخلية تعمل السياسة الخارجية لكسب رضى من فرض على النظام سياسته الداخلية! ولا يتعجب أحدكم من تهافت النظام على كسب رضى أمريكا والتي تتمنع على النظام بذلك الرضى، فأمريكا تدرك تماماً أن النظام لا يستطيع انتهاج سياسة خارجية تناقض سياسته الداخلية. وفرض سياسة داخلية من الخارج له آثار غاية في السلبية أخطرها العزلة الدولية والإقليمية، أما الأخطر من ذلك كله فهو عزلة النظام عن شعبه، لأن النظام ينتهج سياسة داخلية وخارجية لا تتيح الانطلاق من المصالح والأهداف القومية إنما تقود إلى الركون للاملاءات التي تُفرض من الآخرين..! { وهذا يتضح في مواقف من نعتبرهم أصدقاء إزاء قرارات مجلس الأمن إذ كثيراً ما كان موقفهم من السودان مغايراً لما توقعه النظام، وتدخل الأصدقاء اقتصر على تخفيف حدة القرار لا معارضته بالڤيتو، الأمر الذي أرغم النظام على الركون إلى املاءات أمريكا واعتبارها الناهي والآمر في سياستنا داخلية كانت أم خارجية!!. موقف مغاير تماماً اتخذه من نعتبرهم أصدقاء (روسيا والصين) تجاه الأزمة الداخلية في سوريا والتي أرادوا لها التدخل وبغض النظر عن سلامة وصحة موقف الدولتين، وبغض النظر عن سلامة الموقف السوري ونظامه تجاه شعبه، فإن السياسة الخارجية السورية لم تكن مرتهنة لجهة دون أخرى فلها أصدقاء يؤيدونها ويؤازرونها في المحافل الدولية، ولها أعداء ينتقدونها ولو كان حال النظام السوري مرتهنًا داخلياً لقوى خارجية لانعزل ولم يجد من يقف معه في الأمم المتحدة! وهذا لا يعني أنني مؤيد لنظام الأسد الفاشي، فالشعب السوري الذي يقف في المواجهة يستحق نظاماً أكثر عدلاً وإنصافاً، والمسألة السورية قريبة الشبه بالسودانية، وتتفق المسألتان في ضعف قوى المعارضة، وعدم اتفاقها على منهج يقود كلا البلدين ويضع طوق النجاة حولهما!!. فالمعارضة التي تعيش في استضافة الخارج عشرات السنين تنعزل عن شعبها ولا تتابع المتغيرات التي طرأت في بلادهم، فالقضايا التي خرجوا من أجلها تغيرت وتعقدت واتخذت شكلاً آخر وتطورت مع تطور التكنلوجيا وتجدد المتطلبات، كما أن استضافة الدول الغربية للمعارضين تخلق نوعاً من الشعور برد الجميل والذي غالباً ما يكون خصماً على شعوبهم التي خرجوا للدفاع عنها!!! أول ما تقوم به الدولة المسيطرة «وفي هذه الحالة أمريكا» هو فرض سياسة داخلية وبالذات اقتصادية للبلد المرهون، وتقوم بذلك مؤسسات أخرى تابعة لها كالبنك الدولي وصندوق النقد اللذين يفرضان وصفة وحيدة لتلك الأمراض الاقتصادية، تخفيض قيمة العملة، والحد من الإنفاق الحكومي، (والمقصود هنا ليس الإنفاق البذخي إنما التنمية وبنياتها الأساسية كالطرق والسكة حديد وقنوات الري وخلافه) وهذه الوصفة تنمي العطالة في البلاد، وفوق ذلك تفرض العقوبات الاقتصادية ويلوح بسلاح القمح كعنصر أساسي للغذاء!. بمعنى آخر ترسم أمريكا السياسة الداخلية للبلد الذي ارتهن إليها، ثم ماذا بعد أن يتم الارتهان؟! تقوم ذات أمريكا بتطبيق السياسة التي رسمت لها من قبل الفوضى الخلاقة، والأمثلة كثيرة وما يحدث الآن في ليبيا ومصر وتوُنس يؤكد هذا!! وسياسة الفوضى الخلاقة هي ما طبق في الصومال فأحالته إلى دولة فاشلة، والسودان يمضى في هذا الطريق فلا نظام حكم يمكنه مواصلة الحكم ولا معارضة تستطيع أن تسير به إلى بر الأمان، هذا بالإضافة لاحتوائه ملايين المهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون الحدود المترامية الأطراف والتي تبلغ في طولها ما يربوع على العشرة آلاف كيلومتر، هذا إلى جانب ضعف البنيات الأساسية والاقتصادية كمشروع الجزيرة والسكة حديد وأنظمة حفظ المياه والتي تم تدميرها بطريقة ممنهجة! هذا إلى جانب تطور النزاع بين الجنوب والشمال والذي كان حربًا أهلية وتحوّل بفعل نيفاشا إلى نزاع إقليمي بين دولتين وأخشى ما أخشاه أن تأخذ الحرب الأهلية شكلاً مغايراً لتصبح حربًا إقليمية الخاسر فيها كل أطرافها!. وكل أزمة لها مخرج مهما تعقّدت، وأعتقد أن المخرج هنا لا يتم إلا بجراحة صعبة ومؤلمة ولكنها ضرورية، جراحة تشمل مفاصل الدولة الحقيقية وموضع المرض فيها، وذلك لا يتم إلا بتشكيل حكومة تكنوقراط لبناء ما تهدّم، ومطالب الشعب السوداني بسيطة فالراعي فيه لا يريد إلا المرعى لمواشيه والمزارع لا يريد إلا الماء للري، والكل يطلب نقل منتجاته بوسيلة النقل المريحة والرخيصة التي تمثلها السكة الحديد!!! فالسودان يملك من الموارد الطبيعية ما لا يملك غيره وهذا ما أطمع الآخرين فيه فالحروب اليوم أصبحت حروبًا على الموارد، والموارد أحد أهم أسباب الحروب منذ بدء التاريخ، والإحصاءات تقول إن روسيا والسودان يحتويان أكثر من غيرهما من دول العالم من حيث الموارد! والفرصة الأخيرة بيد النظام الحاكم ذاته وبصورة أكبر بيد قائده، والذي عليه إجراء الجراحة حتى تخرج البلاد من الأزمة القاتلة، فأي محاولة للتغيير تجري من خارج النظام ستؤدي إلى فوضى وهذا ما ترسمه لنا أمريكا من مصير!!. إن على قائد النظام أن يتخلى عن أسلوب العزة الآخذة بالإثم، فمصير الدولة ليس في مجلس الأمن ولا في يد أمريكا، فالذي سيسأل النظام وأمريكا وكل الدنيا هو خالقها يوم لا ينفع مجلس أمن ولا سلطة ولا جاه إلا من أتى الله بقلب سليم!! { آن الأوان لإنقاذ البلاد من الانهيار، وأي تراخٍ سوف يؤدي إلى ضياع الأمة فهل من منقذ؟!!