مؤخراً صدرت مذكرة أخرى للمحكمة الجنائية ضد وزير الدفاع وهي مذكرة كانت متوقعة منذ فترة وقد أعلنت عنها المحكمة الجنائية من قبل حينما وضعت وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين ضمن لائحة المتهمين لديها بارتكاب جرائم حرب في السوان ضد مدنيين. والمستغرف جداً هنا أن العالم كله يعرف أن السودان صحيح كانت فيه حرب طويلة لم تندلع مع ثورة الإنقاذ في «30 يونيو عام 1989م» حرب قديمة مع استقلال السودان في عام «1956م» وربما قبل استقلال البلاد حينما طالب الجنوبيون بالفيدرالية والحكم الذاتي وغيره فمع بواكير الاستعمار البريطاني للبلاد غرس الخواجات الفرقة بين أبناء الوطن وغذوا حساسية مفرطة ما بين الشمال والجنوب ضربة في العمق ضربة أصول التمازج والتي شكَّلت القومية السودانية الموجودة حالياً، فأصبح النزاع حول الدين وحول النقاء العرقي شأنًا عامًا، ولذلك أقول إن مذكرات المحكمة الجنائية ضد عدد من المسؤولين السودانيين لم تكن موضوعية بل الغرض منها واضح جداً وأسوأ من هذا كله أنها انزلقت بدور المحكمة فأصبحت المحكمة الجنائية واحدة من أذرع المجتمع الدولي يستخدمها ضد خصومه أو بالأحرى باتت محكمة ترعى مصالح دول بعينها ضد الشعوب الأخرى وهذا ما حدث في حال السودان فالحرب التي دارت رحاها في الجنوب ودارفور فيها أطراف أخرى حكمت البلاد قبل حكم الرئيس البشير وحتى في عهد الرئيس البشير، هنالك أطراف أخرى في الحرب هنالك الحركة الشعبية وحركات دارفور لم نسمع في التاريخ أبداً عن حرب من طرف واحد ولذلك نحن نسأل ونكرر السؤال: لمصلحة مَن تتطاول المحكمة الجنائية في حربها السياسية على الحكومة السودانية. وما يثير اهتمامي أيضاً أن قرارات المحكمة التي تلوح بها منذ فترات طويلة لا تصدر إلا بالتوافق مع حدث عسكري داخلي كما حدث الأسبوع الماضي من هجوم على بحيرة الأبْيَض في جنوب كردفان وما سبق ذلك من مفاوضات فاشلة على استحقاقات عائدات النفط بين السودان ودولة الجنوب، وما تبع تلك المفاوضات من تراشقات كلامية بين البلدين. ما يعرفه الشعب السوداني أن أمريكا وبريطانيا ودولاً أخرى لا تخفي اصطفافها خلف شأن الدولة الجنوبية الوليدة، بل وقد تتقدَّم هذه الدول الجنوب في توجيه قضاياه الداخلية وإدارة شأنه الخارجي في أغلب الأحيان.. ولا أعتقد أن الجنوب الدولة والحكومة بمقدورها أن تقف ضد هذا الاستلاب «الجهير» لصوت وقرار دولة الجنوب في كل المحافل والصفقات؛ لأن هذا التدخل السافر والاستلاب هو السبب الأساسي وراء الاعتراف الدولي بدولة الجنوب بعد نتيجة الانفصال وحينما اعترف هؤلاء بالجنوب الدولة كان الهدف واضحًا أمامهم.. إذن مذكرات المحكمة الجنائية هي إحدى آليات الدول الأمبريالية للانتقاص من السيادة الوطنية ومحاصرة الحكومة وهزّ مكانتها الدولية وتراجع نفوذها الداخلي وبث حالة من الإحباط في أجهزة الدولة وتمكين خصومها من خلخلتها والانقضاض عليها بكل سهولة لكني أحذر من مسألة الاسترخاء الداخلي للحكومة من مثل هذه المذكرات صحيح مرت سنوات على مذكرة توقيف هارون وكوشيب ومن بعدهما الرئيس البشير. غير أن مرور هذه السنوات دون وصول المحكمة لأحد المطلوبين لا يعني أن المحكمة ومن دفعوا بها في هذا الاتجاه في غفلة.. لا بد اليوم من آلية حكومية يكون همّها وشغلها الشاغل معالجة ملف الجنائية بكل تفاصيله وليضع القائمون بأمر هذه المعالجات أن العالم بعد الحرب العالمية الثانية وبعد اتفاقية جينيف «علا» شأن حقوق الإنسان وتراجعت معه القيمة للدولة القطرية في أجواء هذا المناخ للسياسة العالمية بمختلف تياراته.. على السودان أن يلتمس خُطاه ويقفل الباب أمام المبرِّرات غير الموضوعية والحيثيات الملفقة التي تؤدي لصدور مثل هذه المذكرات، وأن يسعى لذلك بكل ما أوتي من وسائل ومداخل.. لكن في المقابل لا أجد تفسيرًا يكفي لحالات الهرجلة داخل أحزابنا المشغولة بمذكرات لا تقدِّم ولا تؤخر فالحال في بنيات الأحزاب السودانية معلوم، فكيف «بهؤلاء» أن يصنعوا التغيير ومن أي مدخل يا تُرى؟..