في إطار أطماعها التوسعية في السودان، وبمباركة أمريكية إن لم تكن بإيعاز، زعزعت الحركة الشعبية أبيي وهاجمت جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. وعندما حسم الجيش السوداني أطماع المتمردين التوسعية في شمال السودان، سارعت المحكمة الجنائية الدولية (أداة أمريكية) إلى إصدار مذكرة ضد وزير الدفاع السوداني. وعندما رفع السودان عدوان الحركة الشعبية المسلَّح إلى مجلس الأمن، أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية أن رئيس السودان يقوم بتقويض دولة الجنوب. وأغلقت الحركة الشعبية بإشارة أمريكية آبار النفط وأحبطت بتوجيه واشنطن مفاوضات نقل النفط عبر ميناء بورتسودان لخنق اقتصاد الشمال. وشاركت الحركة الشعبية بأوامر واشنطن في وضع حجر الأساس لميناء لامو في كينيا. كل تلك الضغوط الأمريكية المتصاعدة تهدف ليس إلى اسقاط النظام السوداني فحسب، بل إلى انهيار الدولة في السودان. سيؤدي إنهيار الدولة في السودان إلى عواقب خطيرة، في مقدمتها انهيار أمن البحر الأحمر. نصيب السودان في مياه البحر الأحمر مساحة تبلغ تسعة آلاف ميل. هي عبارة عن مساحة (057) ميلا (طولاً) * (21) ميل بحري (عرضاً). تلك مساحة بحرية شاسعة يحتاجها الأمن الإقليمي والدولي، كما تحتاجها التجارة الإقليمية والدولية. تهديد أمن السودان ووحدة السودان بالضغوط الأمريكية المتصاعدة، يجعل من تلك المساحات البحرية المائية الشاسعة، مسرحاً للقرصنة. مسرحاً يهدِّد الأمن والتجارة الإقليمية والدولية. طول السواحل السودانية على البحر الأحمر سبعمائة وخمسين ميلاً. عرض مياه السودان الإقليمية في البحر الأحمر إثنا عشر ميلاً. سواحل السودان الشرقية في بورتسودان، تبعد حوالي (021) كيلومتر من سواحل السعودية الغربية في (جدّة). توفُّر الأمن في مياه السودان الإقليمية ضرورة حيوية لأمن المنطقة. كما أن مياه السودان الإقليمية طريق هام للتجارة الدولية. مياه السودان الإقليمية متاخمة للسعودية ومنطقة الخليج وجنوب البحر الأحمر. تصاعد الضغوط الأمريكية، التي زادت عن عشرين عاماً، على السودان وإضعاف (الدولة)، سينجم عنه في نهاية المطاف انهيار (الدولة)، وانهيار أمن البحر الأحمر، وانهيار التجارة الدولية. إنهيار (الدولة) في السودان يعني وضعاً فوضوياً، أبرز معالمه انتشار القرصنة في المياه البحرية السودانية، سواء كانت قرصنة قادمة من الصومال ودول القرن الأفريقي، أم قرصنة سودانية جديدة تنطلق في مياه البحر الأحمر. في حالة الصومال، نتج انهيار (الدولة) بصورة مباشرة عن خطأ السياسة الأمريكية التي دمرت الصومال الدولة النفطية الواعدة وحرمت شعب الصومال حتى من الصيد في المياه الإقليمية الصومالية. فكانت النتيجة هي القرصنة وقطع الطرق البحرية. نتج انهيار الدولة في الصومال عن تدخل أمريكا المباشر العسكري والسياسي غير الحكيم في الشأن الداخلي الصومالي. فكان أن شهد العالم غياب (الدولة) في الصومال. فأصبح يتم إصدار جوازات السفر من (أكشاك)، وصار الطلاب في المدارس يقررون المنهج التعليمي الذي يدرسون، وأصبح مطار مقديشو تديره شركة قطاع خاص، وأصبح الصومال قاعدة خطيرة لتنظيم (القاعدة). ومن الصومال أصبحت (القاعدة) تهدد أمن البحر الأحمر واستقرار اليمن ثم السعودية. جاء انهيار (الدولة) في الصومال بسبب حرص السياسة الأمريكية على فرض رئيس صومالي (أمريكي). لكن واشنطن التي أطاحت ب (محمد فرح عيديد)، فشلت في تعيين رجلها الجنرال (أبشر) رئيساً للصومال. فكان أن دفع الصومال ثمناً فادحاً، ثم من بعد دفع أمن المنطقة والتجارة الدولية ثمناً فادحاً مماثلاً. ما كانت توفره (الدولة) في الصومال من أمن داخلي وأمن للمنطقة وأمن للتجارة الدولية، تعجز اليوم عن توفيره الأساطيل البحرية العسكرية من كل دول العالم. فقد عجزت اليوم كل دول العالم بكل قدراتها في توفير أمن الصومال وأمن المنطقة وأمن التجارة الدولية. السياسة الأمريكية تجاه السودان تحرص على تكرار خطأها في الصومال، بحرصها على التدخل المباشر في الشأن السوداني الداخلي، بحرصها على إزاحة القوى الوطنية من الحكم وفرض رئيس سوداني بمواصفات أمريكية. زعزعة السودان وانهيار (الدولة) يعني حتميّاً زعزعة السعودية ودول الخليج ومصر وجنوب البحر الأحمر. سيهتز الأمن الأفريقي والعربيّ. من بعد تلك الزعزعة، تأتي زعزعة بقية دول العالم. ولن يفيد أمريكا حينئذٍ جدل خبرائها عن العلاقة بين القرصنة والجريمة المنظمة وبين (القاعدة) في الصومال والقاعدة في اليمن والقاعدة في السودان أو مصر. ستسيطر على المنطقة تحالفات (القراصنة) و(القاعدة) و(الجريمة المنظمة). تلك فعاليات خطيرة ستزلزل منطقة حيوية. منطقة استقرارها هام للغاية للمصالح الدولية. حيث لتلك الزعزعة أبعاد وتداعيات تمتد إلى مجمل الأمن الدولي والتجارة الدولية. وفقاً لتلك التداعيات ستتوفر البيئة المثالية لتنظيم (القاعدة) ليبدأ فصلاً دامياً جديداً من الصدام ضد أمريكا، كما ظلّ يصادمها في العراق وأفغانستان والصومال. فصلاً دامياً جديداً يكتبه جنود (القاعدة) القادمون من شرق أفريقيا وغرب أفريقيا ودول الشرق الأوسط ودول غرب ووسط آسيا. إذا انهارت (الدولة) في السودان، ستشتعل سواحل البحر الأحمر الغربية في السّودان وسواحله الشرقية في السعودية وسواحله الشمالية في مصر. ستصبح جبال السودان الغربية والوسطى والشرقية وغابات الجنوب قواعد مثالية لتنظيم (القاعدة) ليصفي حساباته مع أمريكا ويعوِّض خساراته في المناطق الأخرى. تلك حرب استنزاف وحرب عصابات طويلة الأمد، سيدفع الإقتصاد الأمريكي فاتورتها. وهو اقتصاد في غنىً عن هزات جديدة. ستتغذَّى تلك الحرب الطويلة من صور الجنوب الأمريكيين في العراق يقومون بحركات منافية للآداب أمام المساجد في العراق، ومن كلابهم تتجوَّل في داخل مساجد أفغانستان، ومن جنودهم يدوسون بالأحذية على المصاحف (تقرير قناة الجزيرة الفضائية)، ومن حرق الجنود الأمريكان للمصاحف ومن جنود أمريكا الغزاة يبولون على جثث الشهداء الأفغان. ستتغذى تلك الحرب الطويلة من انتهاكات الأعراض في أبو غريب (تقرير صحيفة واشنطن بوست عن ألف صورة فوتغرافية رقمية)، ستتغذى من ثلاثين ألف معتقل سياسي لم يزالوا في سجون العراق منذ تسع سنوات بلا محاكمات أو تحقيق، ستتغذى من تقرير الجنرال (تاغوبا) أمام الكونجرس عن الفضائح الجنسية الأمريكية (35 صفحة) وتوثيق اغتصاب الجنوب الأمريكيين للعراقيات بالفيديو والصور الفوتغرافية. ستتغذى من (الفالوجة) التي زاد دمارها الذّريّ عن دمار هيروشيما ونجازاكي. يجب ألا تكرر أمريكا في السودان خطأها في الصومال. على السياسة الأمريكية أن تتحلىّ بالرشد والمسئولية، بالكفّ عن الضغط المتزايد على السودان، ولتدعم (الدولة) والوحدة والسلام، إنهيار (الدولة) في السودان يعني انهيار المعبد، ليس على رأس السودان وحده، بل على رأس أمريكا أيضاً. من المفارقة أن الضغوط الأمريكية لم تزل تتصاعد على (الدولة) في السودان، رغم تقارير المبعوثين الخاصين العديدين الذين أوفدهم الرئيس الأمريكي إلى السودان. رغم تصريح (غريشن) العلني في واشنطن أن السودان قد تعاون بنسبة001% مع أمريكا في الحرب ضد الإرهاب. تلك الضغوط الأمريكية المتصاعدة ضد السودان بالتخطيط للإنفصال وتنفيذ الإنفصال وإعلان تأييد الإنفصال ورعاية الإنفصال ومباركة أطماعه التوسعية في الشمال، خيانة للوحدة والسلام في السودان، خيانة لاتفاقية السلام التي تنص على دولة واحدة بنظامين. تنصّل أمريكا من تعهداتها المالية في مؤتمر أوسلو مايو 9002م لإعمار ما دمّرته الحرب في السودان ضغط عالٍ لدفع الدولة في السودان إلى الإنهيار. تصاعد الضغوط الأمريكية على السودان يساهم في نهاية المطاف في انهيار (الدولة) وتحويل السودان إلى أكبر قاعدة في العالم لتنظيم (القاعدة) وكل التنظيمات المسلحة الثائرة ضد الهيمنة الأمريكية. سيصبح السودان دولة بلا عنوان، لكن ستصبح أمريكا قوة كبرى خارج المنطقة. سيصبح السودان دولة بلا عنوان، لكن في نهاية المطاف كذلك ستخرج تلك المنطقة الحيوية الإستراتيجية بمجملها من النفوذ الأمريكي.