بحسب طبيعتنا الريفية، فإننا لا نستريح لمن يكلف بأمرٍ فيتعامل معه بطريقة الاسترخاء والتكلَّس، وأشد الذي نكرهه لدرجة البغض والاستنكار، عندما نشاهد رجلاً يسير في الطريق كأنه ميت، خاصة إذا كان يجرجر أقدامه متثاقلاً، ويطأطئ رأسه كالطائر الذي أصابته النِبال. والرجل ذو الهمة العالية، والشهامة في المواقف، ومختلف المناسبات، تعرفه من سيماء وجهه، وسرعة حركته وجديته في تحمل المسؤولية بأخذه لجميع الشؤون بقوة لا تحتمل أي قدرٍ من المزاح. وكنت أظن أن وضعنا السياسي الحالي من الأوضاع التي لا يتناسب معها إلا أولئك الذين تنطبق عليهم الأوصاف المذكورة، ولكن لم أجد أن الإحساس بما يداهمنا من خطر ويجابهنا من عقبات يتناسب مع الذين يتصدون لها. فالأحزاب التي تدعي أنها نبتة وطنية، أراها تنخُر في عظام هذا الوطن، كما ينخر السوس، وما أبشع ما يقترفه الفتى عندما يشين سمعة أهله، ويسعى بين النَّاس والعالمين ليلطخ سيرتهم ويقضي على كرامتهم، وهذا هو الذي تفعله أحزاب كنا نظن أن في قيادتها رجالٌ لا تسقط همتهم، وتنحط مبادئهم بسبب غيرة ترقي إلى درجة الداء العضال، الذي لا تعاني منه في عرفنا إلا النساء. والنُّعاس الذي نلاحظه في ممارسة العمل السياسي حتى من قبل أهل المبادئ، هو كذلك من الشرور المستطيرة التي تكون سبباً في انهيار قدرة الرجال على مواجهة النائبات، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة تصلح للمقارنات والمقابلات. فأين ذلك الإحساس العالي بالدفاع عن هذا الوطن وعقيدته بالنظر إلى أولئك الشهداء الذين لم يكلفهم مسؤول أو رئيس عندما وهبوا أرواحهم رخيصة في معارك لا تزال في قلب الذاكرة، منها معركة الميل أربعين ومتحركات استولت على بور ورمبيك وغيرها من مدنٍ. وأين تلك المسيرات الهادرة المنددة بالتمرد الذي كان قزماً يلجأ أفراده إلى الأحراش والغابات عندما يهب المجاهدون آنذاك هبة واحدة فيرتد إلى أعقابه خاسئ الطرف حسيراً. والسياسة برغم سخونة أجوائها، وكثرة المنعطفات والتحديات التي تتخللها، لا أجد أن التعامل مع معطياتها يتناسب مع أقل مقتضى من مقتضياتها. والملاحظ أن ردود الفعل السياسي اتسمت بالنُّعاس والمواقف الخائرة وتلك من أعظم المصائب التي ستؤول بنا إلى ضعف، وتوردنا موارد الفناء والهلاك. فيا أهل السياسة والمتصدون لأساليبها ما هكذا يتعاطى الرجال، عندما يبلغ السيل الذبى وتستحكم الحلقات. وربَّ ناعسٍ نائم، أغرقه الطوفان والموج بسبب سقوط الهمة وفقدان الإحساس بدرجة الخطر. وكم تكون خسارتنا عندما يتجندل الرجال، وتنهار المعنويات وتساس الدولة بعناصر بعيدة عن ما يشعر به الشعب من وخزات وآلام، ذلك لأن المشروع الذي يناطح السماء، لا يقوم عليه من يجرجرون الأذيال، ويتلعثمون في القول نتيجة للخيانة التي ضربت فيهم سويداء القلوب والأكباد.