لم يكن همنا الأكبر في الكلمتين الأخيرتين من «معادلات» «رحلة البحث عن ناس عندهم دين» هومجرد المقارنة بين نموذجين من نماذج التدين «قد يزعم أحدهما أنه «سلفي» والآخر أنه «صوفي».. كما لم يكن يعنينا اتخاذ موقف ما، مع أوضد أي من المذاهب أوالطوائف الإسلامية. الذي يعنينا حقاً من تلك المقارنة، هوفحص طبيعة «الوعي الديني» وعلاقته ب «الوعي المطلق» بالأشياء وبالقيم.. بالخالق وبالمخلوق.. بالمعاني وبالظواهر، لدى كل من النموذجين المذكورين: -النموذج الذي يتعامل مع النصوص الدينية باعتبارها منظومة قيم «متحوصلة»، محددة، وحاسمة ومنافسة لمنظومة القيم الإنسانية العامة!! والنصوص عند هذا النموذج هي العالم كله، والسلف عنده كائنات مقدسة وليسوا بشراً، وفهمهم أوما زعم الرواة أنه فهمهم للنصوص، هوالحجة الباهرة والبرهان الساطع ومبلغ علم العلماء وفقه الفقهاء. -والنموذج الآخر، الذي يعلمُ أن قسماً كبيراً من قيم الدين هي قيم إنسانية، فطرية، بالأساس، وأن ثمة أساس قيمي إنساني مشترك بين جميع البشر أياً كانت أديانهم، وأن النصوص الدينية تنقسم إلى «نص مطلق» لا يحتملُ النقاش في صحته، وإن كان يحتمل النقاش في تأويله حسب ضوابط اللغة، هُوكتابُ الله تعالى، و«نص نسبي» هُو كل ما نُسب إلى البشر بمن فيهم النبي نفسهُ صلَّى الله عليه وسلم، وهذا لابُدَّ من إعمال العقل فيه وفحصه «ليس مرة واحدة وفي عصرٍ واحد، كما يظن بعضهم، ولكن في كل زمان وكلما قامت الحاجة أو جدَّ شأنٌ يستوجبُ إعادة الفحص».. من أعظم معجزات القرآن الكريم - لو تأمله المتأملون بعقول مشرعة، حرة، وواثقة - تسفيهه المتواصل للتدين الكسول، الرخيص، والموروث، الذي لا يبذل فيه المتدين ما هو أبعد من الاطلاع على أقوال السلف، ثم الاعتصام بها والعض عليها بالنواجذ..!! القرآن يصفع هؤلاء في كثير من آياته الكريمة، حين يقرر لك ببساطة ووضوح أيها القارئ، أن الدين ليس هو ما وجدت عليه آباءك فاقتديت، دون أن تبذل جهداً «عقلياً» من عندك.. يستوي في هذا جميع الأديان بما فيها الإسلام نفسه.. الدين ليس هو ما ورثته عن آبائك، لأنه لوكان الأمر بتلك البساطة لكان الله -سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ظالماً لبعض الناس ومحابياً لبعض آخر!!. فكما أنك ورثت عن آبائك الدين الحق، دون أية ميزة خاصة بك سوى ميزة انتمائك إلى آباء مسلمين، فإن من حق النصراني أن يرى أنه ورث عن آبائه الدين الحق.. ومن حق اليهودي بل من حق الوثني أن يرى الأمر كذلك بالنسبة إليه!!.. فما الفرق، اذاً، بينك وبين أُولئك الذين قال لك «آباؤك» إنهم ليسوا على الدين الحق؟ «ولاحظ أنهم، هم أيضاً، يقول لهم آباؤهم أنك ضال». لماذا، يا ترى، يمكن أن يحابيك الله، أيها المسلم، فلا يكلفك إلا اتباع آبائك، بينما يتحامل على الآخرين النصارى واليهود وغيرهم فيطالبهم بمخالفة آبائهم، واتباع آبائك انت؟! لماذا يأخذ القرآن على أصحاب الأديان السابقة كلها، قولهم: «هذا ما وجدنا عليه آباءنا» اوقولهم: «إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وانا على آثارهم مقتدون» ثم يستثنيك أنت وحدك، بل يكافئك الجنة على قولك «هذا ما وجدنا عليه آباءنا» أو«هذا ما قالهُ السلف» «والعبارتان، يا شيخ، معناهما واحد»؟! لماذا يحتاج رجال أمثال «روجيه جارودي» أو«يوسف إسلام» أو«مالكولم أكس» أو«جيفري لانج» إلى إرهاق عقولهم وأبدانهم، بالبحث والفحص والغربلة في جميع الأديان، بدءاً بأديان آبائهم، حتى يصلوا بأنفسهم لا بما قال السلف إلى الدين الحق، بينما تنام أنت ملء جفونك، مطمئناً إلى أنك وارث الحقيقة؟! إن «مسلماً» لا يعالج أمثال هذه الأسئلة الجوهرية ليس جديراً بالاطمئنان إلى دينه، تماماً كما هوالشأن بالنسبة إلى غير المسلم.. ولا شيء يحزننا أكثر مما تحزننا حقيقة أن معظم حملة الألقاب الدينية عندنا، ومعظم حملة رايات العلم الديني ممن يصنفون الكتب ويمارسون الدعوة «وخصوصاً من ينتسبون منهم إلى التيار السلفي»، هم أناس لا عهد لهم بأمثال هذه الاسئلة الجوهرية، ولا عزم لهم عليها، تجد ذلك الكسل الذهني شاخصاً في كتاباتهم ومحاضراتهم وخطبهم التي هي مجرد نقل أمين عن الأسلاف!! لا يتصور أحدهم، مطلقاً، أن عدالة الله المطلقة تقتضي المساواة الكاملة بين البشر في تكليفهم بالبحث عن الحقيقة، بحثاً لا يرتهن إلى أية مسلمات قبلية، ولا يتورع عن مناقشة أي مصدر، والشك في أي مشرب، والاحتكام إلى العقل وحده، بعد الإخلاص والاستعانة بالله.. إذ لو كان النقل المجرد حجة، لبطلت الحجة على غير المسلمين الذين يأخذون دينهم نقلاً، كما نأخذ ديننا نقلاً..!!