أخي الكريم الأستاذ علي يسن.. رعاه الله - السلام عليك وأصدقك القول بأني لم أستطب سخريتك من السلفيين وتصويرك لهم على هواك على أنهم يتعاملون: «مع النصوص الدينية باعتبارها منظومة «قيم متحوصلة»، محددة، وحاسمة ومنافسة لمنظومة القيم الإنسانية العامة والنصوص عند هذا النموذج هي العالم كله، والسلف عنده كائنات مقدسة وليسوا بشرًا، وفهمهم أوما زعم الرواة أنه فهمهم للنصوص، هو الحجة الباهرة والبرهان الساطع ومبلغ علم العلماء وفقه الفقهاء». ووضعك لهم بعد ذلك في مقابل أناس آخرين هم من يعلمون: «أن قسماً كبيراً من قيم الدين هي قيم إنسانية، فطرية، بالأساس، وأن ثمة أساسًا قيميًا إنسانيًا مشتركًا بين جميع البشر أياً كانت أديانهم».فالسلفيون ليسوا كلهم كما زعمت في هذا التصوير الظالم، وليسوا من الرافضين لمقولة إن الإسلام جاء مكملاً للقيم الإنسانية ومتممًا للأديان السماوية، فهذا ما دلت عليه الأحاديث النبوية التي يعرفها ويقر بها ويقررها في الدرس الكثير من العلماء والوعاظ السلفيين. وفي الحقيقة ما كنت أود أن تخوض في عمودك الأنيق في مباحث علماء الأصول عن حجية السنة، ولا في مباحث علماء الرواية عن صحتها، فتتتورط في هذا الخطأ الذي زعمت به: «أن النصوص الدينية تنقسم إلى «نص مطلق» لا يحتملُ النقاش في صحته، وإن كان يحتمل النقاش في تأويله حسب ضوابط اللغة، هُو كتابُ الله تعالى، و«نص نسبي» هُو كل ما نُسب إلى البشر بمن فيهم النبي نفسهُ صلَّى الله عليه وسلم، وهذا لابُدَّ من إعمال العقل فيه وفحصه ليس مرة واحدة وفي عصرٍ واحد، كما يظن بعضهم، ولكن في كل زمان وكلما قامت الحاجة أو جدَّ شأنٌ يستوجبُ إعادة الفحص». فهذا ما قد يعطي القارئ انطباعًا بأنك ترمي من ورائه إلى الزعم بأن في الإمكان إعادة النظر في مدى صحة الأحاديث النبوية التي قرر علماء الرواية القدامى أنها صحيحة، كما يعطي انطباعًا بأنك تدعو إلى إعادة النظر فيما قررته الأحاديث النبوية الصحيحة من أحكام شرعية. وهذا ما كان ينبغي أن يصدر منك لا على سبيل التصريح ولا التضمين. لأن هذه مسائل مقررة مفروغ منها من قديم الزمان، فمن الحديث النبوي ما نقل متواترًا بلفظه أو معناه، ورواه جمع لا يمكن تواطؤهم وتوافقهم على الكذب عن مثلهم، وبذلك يحصل اليقين التام بصحة الحديث النبوي، ويغدو الجدل في أمره ضربًا من الهراء. ومن أمثلة ذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». فقد رواه أكثر من اثنين وسبعين صحابيًا، ورواه عنهم جمع أكبر، يستحيل عقلا تواطؤهم على الكذب أو الخطأ. ومن الحديث النبوي ما يوصف بأنه صحيح، وهو الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط، ضبطاً كاملاً، عن العدل الضابط، إلى منتهاه، وخلا من أي شذوذ أو علة قادحة. فإذا خلا الحديث من الشذوذ والعلة القادحة فلم المطعن فيه إذن؟ إن الموقف العلمي الصحيح هو ألا نطعن في سند حديث شريف كهذا، ولا في إفادته، لمجرد أنه خالف مفهومنا أو معهودنا العقلي أو الثقافي. وإنما الواجب أن نستجيب لمعناه ونرضخ مقتضاه على الفور، لأنه لأجل ذلك بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً وهاديًا وبشيرًا ونذيرًا. ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو ذاته الشخص الأكرم الذي جاءنا بالقرآن الشريف، الذي قلت إنه نص لا شك فيه. والمنطق العقلي يقول عندئذ إن الذي لا يشك في صحة القرآن الكريم ينبغي ألا يشك في صحة الحديث الشريف، لأن الذي جاء بهما رجل واحد ماجد. ولست أخوض في بقية تفاصيل النواحي الفنية والمنهجية لعلم الحديث الشريف، ولا في بقية تفاصيل البراهين والحجج على خطأ رأيك في الحديث الشريف رواية أو دراية. ويكفي أن أردد ما قاله في هذا المقتضي سيدنا العلامة الأصولي المقتدر يوسف حامد العالم، رحمه الله، والذي مفاده: إن الأحرى بأهل العلم أن يوحدوا بين القرآن والسنة الصحيحة، لأن مصدريتهما في الوحي واحدة، وطالما أن المصدر واحد، فلا تباين ولا تناقض وإنما انسجام في أداء الغاية التشريعية الواحدة. ورأيتك تعود بعد أن عالجت مبتسرًا هذه القضية الشائكة إلى مناوشة السادة السلفيين، وإلى تعميم القول النمطي فيهم أنهم قوم ذوو تدين كسول رخيص موروث، لا يبذلون فيه ما هو أبعد من الاطلاع على أقوال السلف، ثم الاعتصام بها والعض عليها بالنواجذ. فما الخطأ في ذلك يا ترى؟! أقصد ما خطأ السلفيين في ذلك؟! إن اعتمادهم على فقه السلف الذي هو فقه صحيح بل هو الفقه الأصح فيه سلامة لدينهم وخلاص لهم ونجاة. وذلك خير لهم من أن يقحموا عقولهم فيما لا يعلمونه من أمور الشرع. ولا يستقيم أن تشبه أمثال هؤلاء المسترشدين الراشدين بمقلدي آبائهم من النصارى واليهود والمجوس والهندوس، فذاك لعمر الحق قياس مع فارق مديد! فقد أُنسيت ما يفرق هذه الحالات التي سقتها اعتباطًا، وهو أنا ورثنا عن آبائنا صحة المعتقد، ولم نرث عنهم نِحلة ضالة ينبذها ويمجُّها العقل السليم. ثم انتقلت بلا مبرر إلى أفق عقلي أردت أن تسوق إليه الجميع بلا رفق قائلا: «لماذا يحتاج رجال أمثال روجيه جارودي أو يوسف إسلام أومالكولم أكس أوجيفري لانج إلى إرهاق عقولهم وأبدانهم، بالبحث والفحص والغربلة في جميع الأديان، بدءًا بأديان آبائهم، حتى يصلوا بأنفسهم لا بما قال السلف إلى الدين الحق، بينما تنام أنت ملء جفونك، مطمئناً إلى أنك وارث الحقيقة؟». وفي هذا القول عدة أخطاء إن لم أقل مغالطات. فأنت تدري أن سيدنا مالكولم إكس اهتدى إلى الإسلام الحقيقي متبعًا أقوال السلف الصالح، وقد استمدها في غضون مرافقته واسترشاده بسيدنا الشيخ أحمد حسون السلفي السوداني المعروف. كما استمدها من أناس آخرين بعضهم علماء وبعضهم عوام عاديون. وكذلك فعل يوسف إسلام الذي اطمأن إلى الدين عبر لقائه بأتباع السلف الصالح من البشر العاديين الذين التقاهم بحاضرة لندن، وهو لما يزل يهتدي بهديهم ويقتدي بسمْتهم، ولا يكاد يذكر في أحاديثه مرجعًا له غير المأثور عن السلف الصالح، وقلما يتحدث عن الثقافة المعاصرة إلا مزدريًا إياها، وقلما يستشهد بآراء الفلاسفة المثاليين أو الوضعيين الغربيين. وأما الدكتور جيفري لانج، وهو فيلسوف وأديب فوق أنه عالم رياضيات، فقد اقتنع بعقائد الإسلام وشرائعه بتوجيه سلفيين عاديين من طلاب جامعة سان فرانسسكو التقاهم بمصلى الجامعة وقادوه إلى درب الإسلام الحنيف. وقد شرح ذلك بتشويق في قصة اهتدائه للإسلام التي عنوانها «ناضل كي تستسلم!» ومضمونها أنه ما وراء النضال العقلي إلا الاستسلام التام لما استسلم له من قبلنا السلف الكرام. وأما الدكتور جارودي فلأنه تعالى على منهج السلف الصالح مغترًا برصيد الفلسفة الغربية وتراث التفكيرالطليق، فقد ارتمى في عوالم ابن عربي الوهمية المرَضية الشاردة عن معالم النهج الرشيد. وقد جعل جارودي من ضلالات كتاب «الفتوحات المكية» لابن عربي، وهي في الحقيقة كتاب خواطر وفتوحات شيطانية، دليلاً له إلى عوالم الشطح والنطح والتقول على الله تعالى وعلى دين الإسلام بغير علم. وإذن قد يكون تقليد السلف أحيانًا أهدى إلى الرشد من ممارسة الفكر الحر. ولا أسوق في هذا دعوة إلى التقليد الأعمى ولا تسويغاً للكسل العقلي، فقد جعلت من رسالتي في الحياة أن أدرب الشباب المسلم على إعمال العقل وإجهاد الفكر. وما زلت أعتقد أن تعليم عادة التفكير للشباب المسلم أمر ضروري من أهم ضرورات وشروط النهضة وأشدها إلحاحًا. ولكن ينبغي أن يتم غرس هذه العادة الطيبة بهدوء وتؤدة، عن طريق الكورسات أو الدورات أو السمنارات الدراسية المنظمة الحرة، أو المدرجة في النظام الدراسي العام والجامعي، أو أن يكون ذلك جزءًا أصيلاً متغلغلاً في طرائق التدريس والاختبار في مقررات المدارس والجامعات. ولا أرى أن يتم التدريب على التفكير على طريقة اللسع واللذع واللكع والصعق الكهربي الذي ظهرت آثاره في كتاباتك الأخيرة التي قد يحبها بعض الناس من غير أن تفيدهم وتستفز آخرين فيشغبون عليك.