الحمد لله الذي منّ على السودان بهذا النصر المبين وثبّت أقدام جنودنا ومجاهدينا الأشاوس فهزموا أولياء الشيطان وردوهم على أعقابهم خاسرين لم ينالوا خيراً وشفا الله بنصره صدور قوم مؤمنين. هاهو يوم آخر من أيام السودان يضاف إلى سجل تاريخه الناصع المليء بصحائف البطولات، هي ملحمة أخرى ضمت إلى ذلك العقد الفريد من ملاحم أهل السودان التي تزين جبينه. هجليج عادت إلى حيث تنتمي، إلى دفء الوطن، و إلي حضنه، بعد أن اغتربت لعشرة أيام كاملة عاشتها المدينة في قبضة أيادٍ قذرة عميلة تعمل بالأجر لدى سادتها وكبرائها. هجليج عادت، ومن بركات عودتها أنها لمّت شمل أهل السودان وصفّتهم على صعيد واحد، فخرجوا على غير ميعاد ولا اتفاق ولا ترتيب مسبق في تلك الجمعة المباركة إلى الشوارع بتلقائية وعفوية. خرجوا إلى الطرقات وإلى الساحات والميادين تجمعهم مشاعر الحب والوفاء والبر والإخلاص لهذا الوطن العزيز للتعبير عن فرحتهم الغامرة بعودة هذا الجزء الأصيل والعزيز من تراب السودان.لم يكن هذا الخروج قصراً أو حصرياً على أهل العاصمة الخرطوم بل عم كل البلاد في القرى والحضر، ولم يقتصر على الرجال دون النساء، ولا على الشباب دون الشيوخ، ولا على الكبار دون الصغار. بل خرج كل هؤلاء جميعاً دون استثناء، النساء كنّ يعبرن عن فرحتهن بهذا النصر بالزغاريد وبالقصيد وبأناشيد الحماسة، والشيوخ كانوا في المقدمة وقد دبت فيهم حيوية الشباب بفعل هذا النصر الغالي. فمنهم من «عَرَض» ومنهم من استحضر وقائع معارك تاريخية خاضها الأسلاف وانتصروا فيها نصراً مؤزراً، ومنهم من ملك الفرح عليه أقطار نفسه وجاش صدره بمشاعر السرور والحبور فلم ينطلق لسانه بل انطلقت عيناه تفيض من الدمع فرحاً وهل هناك أبلغ فصاحة من فصاحة أعين الرجال حين تدمع.حتى الاطفال خرجوا ليشهدوا هذا التوثيق الأهلي العفوي لهذا الحدث التاريخي، لينحتوه وينقشوه في «ذاكراتهم» الحديدية والصخرية، حتى إذا شبّوا عن الطوق أدركوا وفهموا معنى ومغزى هذا الابتهاج المفاجئ الذي كانوا قد رأوه على وجوه آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم. ليس بغريب على أهل السودان من القدماء والجدد، أن يتنادوا إلى بعضهم البعض، ولا أن يتداعوا هذا التداعي الحر فالتاريخ يعج بنماذج لا حصر لها إن نحن ذهبنا لكي نعدها فلن نحصيها، ولكن ما لم يشهد له التاريخ السوداني القريب مثيلاً هو هذا الذي حدث بالأمس، ما حدث بالأمس نسيج وحده ولا شبيه له. تالله لو كنت معارضاً أمني نفسي الأماني بإخراج «الجماهير» إلى الشارع لإسقاط النظام، لاستيقظت من فوري من هذا الوهم ومن أضغاث هذه الأحلام، ولأعلنت توبتي النصوح من هذا الإثم. فقد خرجت الجماهير إلى الشارع دون أن يقرع لها أحد أجراس الخروج، خرجت كتل الجماهير إلى الطرقات وهرعوا صوب القيادة العامة للقوات المسلحة حيث بيت الرئيس ليس من أجل «إسقاط» النظام أو الهتاف ضد الرئيس أن «ارحل» أو «كفاية»، أو غيرها من الهتافات التي كنا وما نزال نسمعها تتردد حوالينا، ولكن ذهبوا إلى هناك لتحية رجال الجيش ولتجديد الثقة في قائده الاعلى ولسان حالهم يخالف قول بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ما حدث ظهيرة الجمعة الماضية لهو استفتاء حقيقي وتصويت عملي مارسه الشعب السوداني على الهواء الطلق حول العلاقة مع طغمة الحركة الشعبية الحاكمة في دويلة جنوب السودان ونتيجة الاستفتاء ظهرت في الحال تقول إن العصا والعصا وحدها القادرة على «قرع» وحمل هذه العصبة كرهاً لفهم معانٍ كثيرة غائبة عنها بفعل غياب عقلها وعمى بصيرتها، وأن التعامل مع هذه العصبة على أساس أنهم رجال دولة كان هو الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها الحكومة السودانية منذ البدايات الأولى. فلو أن الحكومة تعاملت معهم باعتبارهم رجال عصابات لما حدث ما حدث في النيل الأزرق ولما وقع ما وقع منهم في جنوب كردفان، ولبقيت هجليج «عذراء» طاهرة لم يمسسها سوء، ولا نريد هنا أن نكثر من كلمة «لو» التي تفتح عمل الشيطان ولكن نقول رب ضارة نافعة وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم. ومما زاد هذا الشعب نبلاً على نبله ومروءة على مروءته وشجاعة على شجاعته وحلماً على حلمه ظهيرة الجمعة، هو أنه ورغم تلك المشاعر والعاطفة الجياشة وذلك الحماس الدافق ورغم الشعور بنشوة وزهو الانتصار، إلا أنه لم تدفعه هذه المشاعر إلى ارتكاب حماقات في حق رعايا دويلة جنوب السودان الذين فضّلوا الاستمرار في الإقامة في السودان رغم اختيارهم الانفصال ورغم «وسخ الخرطوم» الذي قال به كبيرهم باقان. ولقد هتفت في نفسي وأنا أشاهد مساء نفس ذلك اليوم المبارك عدداً منهم من البنين والبنات اللاتي رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة وهم يمشون على أرض الخرطوم مرحاً مطمئنين كعادتهم لا يخافون حتى من نباح الكلاب، هتفت في سري وأنا أرى هذا المشهد الذي هو حصري على هذا البلد وأهله وقلت ما أعظمك يا سودان وما أنبل شعبك وما أحلمهم. وتذكرت تلك الأيام ونحن ندرس في إحدى دول الجوار العربية وهي دولة «شقيقة» وعلاقاتنا معها «أزلية» ولكننا كنا لا يُخرجنا إلى الشارع إلا «الشديد القوي» وذلك حين ينحدر تيرمومتر العلاقة بين البلدين إلى مستوى الصفر، أو حتى حين ينتصر السودان أو ينهزم في مباراة كرة قدم تكون هذه الدولة الشقيقة طرفاً فيها لأنك إن خرجت ستصك أذنيك وتخترق طبلتها كلمات لها حواف حادة لا تستطيع ردها عنك. تصور كيف يكون الحال لو حدث ما حدث في بلد غير السودان، وقد شهد العالم مجازر بشعة في بعض الدول ارتكبت في حق رعايا دول من دول على خلاف معها حيث تتم عمليات مطاردة واستهداف منظم ضدهم للقضاء عليهم. ولكن في السودان ورغم الحرب التي شنتها علينا دويلة الجنوب باحتلال أرضنا ومحاولة انتهاك سيادتنا والتدخل السافر في شؤوننا، رغم ذلك فإن أيدينا لم تنبسط إليهم بالسوء ولم تسجل ولا حالة واحدة من عدوان من هذا النوع. آخر نكتة: وفد من الحشرات يزمع التقدم باحتجاج شديد اللهجة لرئاسة الجمهورية والسبب تشبيههم بالحركة الشعبية!!.