لا يبدو في الأفق حتى الآن، توافق سياسي بين الفرقاء السياسيين في بلدنا لتشارك السلطة وتكوين حكومة ذات قاعدة عريضة تضم القوى السياسية والحزبية الفاعلة في البلاد، وتلتئم اللحمة الوطنية باتفاق من هم في المعارضة مع أهل الحكم، ونخرج من دائرة النار والنزاع وعدم الاستقرار الذي لازمنا منذ الاستقلال. الحوار الذي يدور حالياً بين المؤتمر الوطني والأحزاب الأخرى المعارضة، إذا كُتِبَ له النجاح سيقود لواقع جديد، ويمكن خلاله الاستهداء للطريق الذي تطوى عبره المشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية، وتطويق الأزمات التي لازمتنا لفترة طويلة، وتسببت في تسلل أفعى التدخلات الخارجية التي ما وجدت سبيلاً لذلك إلا فعلت لتنفث سمها الزعاف وتلدغ لدغاتها وتبقى مترصدة. السودان بعد ذهاب الجنوب في حاجة ماسة لعبور أزماته وتجاوزها، ولن يحدث ذلك إلا بالوفاق والاتفاق بين من يريد أن يفعل خيراً وله إرادة حقيقية في خدمة الوطن ونسيان الجراح والمرارات والإحن. جرى ويجري الآن حوار عميق بين المؤتمر الوطني وأحزاب المعارضة خاصة الحزبين التقليديين الأمة القومي والاتحادي، ولا يوجد خلاف حقيقي في التوجهات والمشارب الفكرية والمقاصد بينهما وبين الحزب الحاكم، وهذا وحده مدعاة لسرعة التوصل لاتفاقيات تنهي الخصومة وتفتح الباب أمام مشاركة في السلطة تغلب فيها المصالح الوطنية العليا على حظوظ الذات والمنافع الحزبية التي ما أفادت يوماً ولا نفعت. لكن رغم كل هذا يبدو أن هناك عقبات ما قد تحول دون الوصول لهذا المبتغى وتؤسس لمرحلة جديدة، بتمترس بعض المتحاورين حول نقاط لا أساس لها ولا قيمة، مثل اشتراط حكومة قومية كما يفعل حزب الأمة القومي، ورد المؤتمر الوطني بأنه لا مجال لمثل هذه الحكومة التي لا تسهم في حل القضايا الوطنية المركبة، ولن يتم فيها الاتفاق على برنامج موحد ولا محددات ومقيدات في منهجها وسياساتها، بينما يطالب الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي هو الأقرب للمشاركة، بحسم قضايا ذات طابع خاص لا علاقة لها بالحوار السياسي مثل الحقوق المصادرة، والممتلكات التي تم وضع اليد عليها عند قيام الإنقاذ، ويقدم الحزب قائمة طويلة من المطالب ويلح في التعويض!! ومن الأفضل للحزبين التقليديين حسم خياراتهما والتوجه لما فيه المصلحة العامة، فالتعلق بخيوط الوهم وسراب سقوط النظام الحالي، سيضر بهما وسيطول الانتظار لحدوث ذلك، فالواجب الوطني يقتضي التعقل السياسي وتلمس الطريق الصحيح، والخروج من صحراء التيه إلى ضفاف التوافق، والترافق الوطني والمشاركة في إدارة شؤون البلاد، والتراضي حول أية قسمة سلطوية معقولة ومقبولة تقود لحل المشكلات الغائرة في جسد البلاد المثخن بالجراح. لقد سقطت كل المحاولات السابقة لإسقاط سلطة المؤتمر الوطني، بدايةً بالعمل العسكري بمشاركة حزبي الأمة والاتحادي وبقية فصائل المعارضة، مروراً بالعمل من الداخل والجهاد المدني، ثم التواطؤ مع حركات دارفور والتآمر مع الخارج، ثم التحالف مع الحركة الشعبية في حلف ضم كل قوى المعارضة، وكل ذلك فشل وأخفق في تقويض أركان الحكم، فلتجرب هذه الأحزاب التاريخية صيغة جديدة للعمل الوطني بالاتفاق على الحد الأدنى من التفاهم وقيادة البلاد إلى مرافئ الاستقرار. إذا كانت الأحزاب التقليدية المعارضة تعيش مرحلة ما قبل الانتقال بتقادم أعمار زعمائها الحاليين «السيد الصادق المهدي والسيد محمد عثمان الميرغني» وذات الشيء للأحزاب الأخرى التي تناصب الحكومة العداء كالحزب الشيوعي والمؤتمر الشعبي، فإن الوقت مناسب للتفكير في المستقبل ومراحل الانتقال، ويجب التفكير بوعي أكبر ومنظور أعمق لبقاء هذه الأحزاب على قيد الحياة، والإبقاء على فاعليتها السياسية قبل أن تتحول لمكونات في المتحف التاريخي السياسي. تحتاج الأحزاب المعارضة لاختبارات جديدة بخلاف ما تعودت عليه من روح المنازعة وخصائص الاعتراض والصراع، فهل تنفتح بصيرتها على حقائق موضوعية وتُقدم على ما يفيد البلاد؟ وإذا لم يحدث ذلك، فمن الواضح أن الحكم الحالي والمؤتمر الوطني لن ينتظر أحداً، وسيعلن حكومته وعندها «الحشاش يملأ شبكتو».