بحلول أكتوبر الجاري تكون المشاورات و «التدابير» حول تشكيل الحكومة الجديدة دخلت شهرها الرابع، حيث قضى المؤتمر الوطني وخصومه السياسيون من قوى المعارضة الاساسية أكثر من «9» اشهر في ساحة السجال والمناورات والتكتيكات والمزايدات السياسية دون الوصول الى اتفاق حول شكل الحكومة ومستوى مشاركة أحزاب المعارضة... إذ أن الناظر الى معطيات الساحة السياسية على ذات الصعيد يدرك أن المحصول النهائي لحوار المعارضة والحكومة لقسمة السلطة في ما بينهما خلال الفترة المشار إليها «صفر كبير»، حيث كان الأمر اقرب إلى «جس النبض» والمناورات. ولعل الدليل على ذلك آخر تصريحات الأمين السياسي لحزب المؤتمر الوطني الدكتور قطبي المهدي التي بدا من خلالها يائساً من مشاركة القوى الفاعلة في التجمع، حيث قلل من تأثير عدم مشاركة حزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي«الأصل» في الحكومة الجديدة، كأنما استنفدت الأطراف السقف الزمني للحوار. قطار الإنقاذ ولم يقف قطبي عند هذا الحد، بل أكد حرص حزبه الشديد على إعلان الحكومة الجديدة بأسرع ما يمكن، مشيراً في الوقت نفسه إلى إمكانية الاستعانة بالخبرات والكفاءات الوطنية من الأحزاب التي تقبل مبدأ المشاركة مع «الوطني» لإدارة المرحلة المقبلة. وقال إن المجتمع السوداني زاخر بالكفاءات الوطنية لخدمة البلاد في المرحلة المقبلة، وأن هؤلاء ليست لديهم اشكالات مع حزبه في التوافق حول القضايا الكبرى والثوابت الوطنية، مشيراً إلى أن حرصهم على عدم حكم البلاد منفردين كان وراء تأخير إعلان الحكومة الجديدة. ولعل في ذلك تهديداً بتجاوز القوى الكبرى على غرار ما حدث في فترات سابقة عندما كان مضمون الخطاب السياسي منذ منتصف التسعينيات يردد عبارة معناها: «من أراد أن يركب قطار الانقاذ فليفعل فإن القطار لن ينظر أحداً»... لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هل الظروف السياسية الراهنة هي ذات الظروف السابقة؟ في مطلع الأسبوع قبل الماضي كان المؤتمر الوطني يؤكد أن الحوار الذي يجريه مع عدد من القوى السياسية توصل إلى المبادئ الأساسية، فضلاً عن الاتفاق على نظام ديمقراطي في الحكم يمثل كافة الكيانات السياسية الداعية لإنشاء دستور قومي وشامل. وحملت الأخبار أكثر من مرة أن الحوار بين حزبي الأمة والوطني توصلا إلى حلول لأكثر من 80% من القضايا المطروحة، وهو أمر أكده الأمين العام للأول صديق إسماعيل أكثر من مرة، في حين نسبت الصحف خلال فترات متواترة تصريحات لمسؤولين في الوطني والاتحادي عن التوصل إلى اتفاق حول المشاركة في السلطة، وبدا جلياً أن الاتحادي بات قريباً من الدخول في الحكومة الجديدة. والسؤال الجوهري ما الذي يجعل قطار المشاركة بطيئاً؟! وبالنظر إلى ما يجري في المسرح السياسي على صعيد الحوار بين الطرفين حول قسمة «الكيكة» تبرز عدة ملاحظات ومؤشرات يمكن قراءتها على النحو التالي: رغبتان متناقضتان تتنازع الحزبين الكبيرين رغبتان متناقضتان، المشاركة وعدمها، وذلك لسببين: الأول يتعلق بأن الحزبين طال بقاؤهما في المعارضة لأكثر من عقدين من الزمان، وهو وضع أدى إلى إفقار الحزبين بسبب ابتعادهما عن السلطة، ويمكن للمشاركة أن تخفف بعض الضغوط المالية. والسبب الثاني في حالة التنازع المشار إليها هو أن كثيراً من الأحزاب المعارضة تعتقد أن سقوط حكومة المؤتمر الوطني بات مسألة وقت فقط، وذلك بسبب ظروف ومتغيرات ومؤشرات خارجية إقليمية ودولية أكثر من كونها محلية، هذا فضلاً عن مشكلات اقتصادية تعوِّل عليها المعارضة في الضغط على «الوطني» وإجباره على التنازلات المطلوبة، أو الإسهام في إسقاطه. ولعل هذا ما يفسر حالة التردد عند المعارضة، وانتظارها المجهول لعله يكون أفضل بكثير من المشاركة. الترابي في قلب المعركة يلاحظ أيضا أن حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الدكتور حسن الترابي لعب دوراً مباشراً في حمل بعض القوى السياسية مثل حزب الأمة القومي والشيوعي السوداني إلى حالة التردد التي سبقت الإشارة إليها، حيث مارس بعض الضغوط على القوى التي وقفت على عتبة التقارب مع «الوطني» والمشاركة في السلطة. ولعل من تلك الضغوط هجومه على حزب الأمة إبَّان التقارب مع «الوطني»، كما ورد في تصريحات للترابي أشار فيها إلى أن «الأمة» نقض عهده مع أحزاب جوبا بعد الاتفاق معها على إسقاط النظام. وما يعزز هذه الفرضية زوال حدة التوتر السابق بين «الشعبي والأمة» في مقابل التوتر المكتوم حالياً بين «الوطني والأمة». قوى انتهازية لملء الفراغ يعتقد كثير من المراقبين أن المؤتمر الوطني مازال يعتمد السياسات القديمة، وهي استقطاب بعض القيادات في الأحزاب الكبري وإغرائها بالمشاركة بوصفها وسيلة لشق تلك الأحزاب وليس بوصفها خياراً استراتيجياً، والإمعان في إضعاف ذات الأحزاب ومحاولة ملء الفراغ بقوى انتهازية ليس لها أثر في الشارع السياسي السوداني، وليس لها ثقل جماهيري أو وزن سياسي والمساومة بها في بعض الأحيان. ولعل من نتائج تلك السياسات حالة الانقسام الأميبي التي تشهدها حالياً ساحة بعض القوى السياسية التي تتنازعها الرغبتان المتناقضتان المشار إليهما في سياق التحليل.