بادرتهم قائلاً: «صاحبكم طلع أسد بحق وحقيقة وعملية الزراعة تكللت بالنجاح» كنت خارجاً لتوي من غرفة العمليات بمستشفى أحمد قاسم، كان ذلك في صيف «2002» قلتها مخاطباً جمعًا غفيرًا من أهل وأصدقاء المريض جمال الأسد الذي صار من أعز أصدقائي بعد ذلك. جمال من معدن فريد وطينة خاصة وخالصة، «حبوب» بعاميتنا السودانية وهو خدوم يحب الناس وينسى نفسه متفانياً في خدمتهم، أصابه مرض السكر وشغله حبه للآخرين عن الاهتمام بعلاج نفسه ففشلت كليتاه، درس بجامعة القاهرة الفرع وقتها، فتحلق أصدقاء دراسته من حوله ليردوا بعضاً من جمائله لأنه فشل في إيجاد متبرع من أهله. كان في مقدمة أصدقاء جمال الأسد سيدة في بدايات العقد الثالث من عمرها دخلت على مكتبي في ثوب ناصع البياض حافظت المرأة السودانية على ارتدائه على مر السنين وهو عنوان للوقار والحشمة والمهنية والانضباط اسمها عفاف علي عبد الكريم تفرض شخصيتها وتجبرك على احترامها من الوهلة الأولى بما وهبها الخالق من قوام فارع وحضور وجرأة وشجاعة وثقة بالنفس، تحدثت إليّ وأعطتني إحساسًا أنها تعرفني منذ سنين، تفاعلت مع برنامج إحياء وتوطين زراعة الكلى بالسودان وتابعت أخباره وهزّتها مأساة مرضى الكلى وعندما مرض جمال زميل دراستها أحاطته عطفاً ورعايةًًً وخرجت بفكرة عمل إعلان في الصحف لعدم وجود متبرع مناسب من أهله وقالت لي: «والله يا دكتور كمال لو كانت فصيلتي زي جمال لفديته بكليتي وزادت «وأنا جاهزة للتبرع لأي شخص محتاج يشابهني في الفصيلة» تذكرت حينها سيدة سودانية أخرى في كرم ونبل وشهامة عفاف هي المذيعة التلفزيونية ذائعة الصيت «سلمى سيد» فقد أجرت معي مقابلة في تلفزيون الشروق بدبي وأعلنت تبرعها بكليتها عند وفاتها استوقفني بعد الحلقة أحد رجال الشرطة السودانية العاملين بمطار الشارقة ومازحني قائلاً: «يا دكتور شفنا الحلقة امبارح وقلت لزوجتي أنا حاجز كلوة سلمى» وردت زوجتي «أنا حاجزة كلوة أبوسن». واصلت عفاف حديثها لي بانفعال شديد ويداها تتقاطعان أمام وجهها في إصرار على إيصال المعلومة فيقع ثوبها تارة من فوق خصلات شعرها الكثيف فتسرع في إصلاحه بحركة لا إرادية قالت: «عملنا إعلان في الجريدة وجونا «3» أشخاص «خفير وقاضي ومعلمة» منهم من جاء راجلاً ومنهم من جاء بالمواصلات، ومنهم من أتى بعربته الخاصة، تطابق أحدهم مع جمال والبقية قالوا بدل ما نرجع بي كلانا للبيت ختوها في بنك وادوها للمحتاج زي جمال»، هنا تفوقت عبقرية عفاف وقامت بإنشاء جمعية لمتبرعي الكلى وأعدت لها النظام الأساسي وسجلتها كمنظمة طوعية إنسانية وضمت لعضوية مكتبها التنفيذي خيرة القانونيين لتوطد إلى عملية إنسانية تكافلية للتبرع بالكلى من غير مقابل. حضرت معها اجتماعات الجمعية وقنّنا لكل الضوابط القانونية والشرعية إضافة للمعاينة الشخصية لضمان التبرع بدافع إنساني بحت. والحق يقال فكان المتبرع يتقدم وتجرى تحاليله وهو لا يدري من المتلقي، وأيضاً وضعت ضوابط صارمة تؤكد عدم وجود متبرع من الأهل قبل الاستفادة من كلية المتبرع. كانت وما زالت عفاف الدينمو المحرك لهذه الجمعية بما بذلته من مالها ووقتها وجهدها وصلاتها. أنقذت جمعيتها حياة الكثيرين من المرضى وكان من بينهم الطفل رامي الذي زرع في 2003 وقد شب عن الطوق وبلغ سن الرشد وهو العائل لأسرته وأيضاً تصدت عفاف للنداء الذي أطلقته لإيجاد متبرع لأديبنا الطيب صالح. علمت عفاف بشغفي بالأكلات الشعبية بسبب الاغتراب وأخطرتني بدعوة والدها لي لوجبة «كسرة بالملوخية». استقبلني شيخ علي عبد الكريم بمنزله الفسيح بضاحية الصافية بحرارة وحميمية وكرم وبشاشة وطلاقة وغمرني بعبارات شكر وتقدير بواجب أقوم به تجاه أهلي، فهو من قدامى الاتحاديين متعه الله بعقل راجح ورزق وافر فأدار أعماله بين قاهرة المعز والخرطوم وكان من عطايا الخالق عليه عفاف، فهي يده اليمنى وعيونه وآذانه، وقبل أن أقول له بتك دي بي عشرة رجال دخلت علينا ضحى ابنة عفاف فأصرت أن تزيد الجلسة اللطيفة لطفاً وسألتني «يا دكتور إذا الفيل عرس نملة حيولدو شنوووو؟ قلت ما عارف قالت: حيولدو فيل منمِّل»...