كان لا بد لثورة الشعب الليبي أن تنتصر، فبعد أشهر من بدئها وبعد ما راوحت لفترة في مكانها بلا تقدم يذكر، خِفنا أن يفهم رؤوس الحكم في أمتنا أن القوة والقمع والسلاح هي التي تضمن بقاء الحاكم في موقعه. لقد كان من الواضح أن ما استنتجه رؤوس الدول التي اجتاحتها الموجة الثانية من الثورة العربية وهم صالح في اليمن وبشار سوريا والقذافي في ليبيا، ما استنتجه هؤلاء هو أن ما أطاح حاكمي مصر وتونس هو أن القوة ضد شعوبهما لم تستعمل بالإفراط اللازم لرد غضبة الشعب وحشره في قمقم الخوف والمسكنة مرة أخرى، ولذا فإن هؤلاء الثلاثة باغتوا ثورات شعوبهم باستعمال مفرط لقوة السلاح الغاشمة يصيب الحصيف بالدهشة، فسالت الدماء بالآلاف وبدَوا واثقين من أن القمع هو ما سيضمن لهم عروشهم، كذلك لا بد أن مآل مبارك وصورته جاثماً على فراشه خلف القضبان قد زادت من شدة هلعهم، وضاعف من عنف رد فعلهم تجاه شعوبهم، فالأمر إذن بالنسبة لهم أمر حياة أو موت، ولكن.. الأمر للشعوب أيضاً أمر حياة أو موت، إن الشعب الليبي وثوّاره يعلمون أن لو كان قُدّر لثورتهم ألا تصل لمبتغاها ولو قُدّر للقذافي البقاء، فإنه سوف ينتقم مِمنْ قادوا الثورة ضده، بل من كل من شارك فيها انتقاماً مروِّعاً، إذن فإن دافع الرغبة في الخلاص والخوف من مآلات الفشل هي دوافع قوية جداً، تماماً كدافع الخوف من مآلات الانهيار عند الحكام، ولذا كان التدافع في ليبيا كما هو في سوريا كذلك قوياً بإصرار، ولأن من في يده القوة والسلاح له أفضلية القوة والسلاح، فقد أخذت بمجامعنا الشفقة على ثوار ليبيا الذين زجَّت بهم الظروف في قتالٍ لم يعدوا له عدةً ولم يملكوا له خبرةً كافية، وكان الخوف الأكبر أن ينجح رهان القادة على غلبة قوّتهم وسلاحهم على إيمان الثوّار وعزمهم، ولكن، لنحمد الله كثيراً أن الأسد وصالح أصبحا الآن غير متأكدين من أن رهان القوة هو الرابح، وأن الفرق بين من راهن على القوة ومن رضخ لغضبة شعبه، هو أن مبارك مسجون في بلاده وأن القذافي مسجون في هروبه ولا اختلاف بين السجنين. أمّا ما يجب أن يقف عنده العرب وجامعتهم ويتأملوه ملياً ويحسبوا حسابات ربحه وخسارته، فهو حقيقة أن ثورة ليبيا ما كان لها أن تنتصر لولا نصرة الغرب لها، ولولا قصف طائرات حلف الناتو لمواقع كتائب القذافي ومخازن ذخائرها، إن الشعب الليبي سيظل يذكر أن من وقف معه في محنته ليس أشقاءه العرب، وإنما الذين ندعوهم بالأعداء، وإن طيران الأطلسي هو الذي حسم معاركهم ومهّد لهم الطريق إلى طرابلس وليس طيران الجامعة العربية، إن هذه الذكرى ستسبب للشعب الليبي مشكلة أخلاقية وعاطفية مزمنة، وتمنيت لو لم يكن الأمر كذلك. وعلى الشعوب العربية والمسلمة، أن تتأمل في تلك الحقيقة، وأن يدرس قادتها الأضرار التي تعود على الأمة من جراء وقوعها تحت طائلة قيود «جمائل» الغرب عليهم. إن كل عاقل يعلم أن الأطلسي ودُوَلِه لا تفعل ذلك بالدوافع التي ترددها في منابر الإعلام، دوافع الديمقراطية، ودعم الثورات من أجل الحرية، تلك خدعٌ قد انكشفت منذ زمان بعيد، والأولى أن يفكر الشعب الليبي في الاستحقاقات التي سيطالبه بها الغرب نظير خدماته أثناء الحرب، حيث لن يكون أقلها ثروته النفطية ولا أكثرها حكومة موالية ومنقادة. سيكون الشعب الليبي مطالباً بموازنة دقيقة ومواقف قوية لا تخضع للضغط الغربي الأطلسي، فلنسأل الله أن يعين السلطة القادمة في ليبيا على أن تحفظ استقلال ليبيا وثروتها، وأن تضمن ألا يخرج الشعب الليبي من عبودية لنظام العقيد المجنون إلى عبودية للنظام الغربي الطمّاع. كما على الأمة العربية أن تضمن ألا يضطر شعب آخر من شعوبها إلى قبول النصرة من العدو الطامع لأنه لاقى الخذلان المبين من أشقائه وإخوته، نعم... على النظام العربي أن يبحث عن آلية لدعم الشعوب العربية التي تتعرض لمثل ما تعرّض له الشعب الليبي ويتعرّض له السوريون الآن، حتى لا يتقرر في عقول الشعوب أن المفزَع والملاذ هو الغرب وحلفه الأطلسي، وليس الأشقاء والإخوة.