بينما كنت أُقلِّب في مكتبتي قبل سنوات في مدينة «بورتسودان» وجدت مجلة بلا غلاف من مجلة «الهلال» المصرية، ولفت نظري مقال بعنوان: «ماذا أريد أن أقول للناس بعد موتي؟». للأستاذ «توفيق الحكيم» وقد سبق أن نُشر المقال عام «1939» في مجلة «الدنيا المصورة» وأُعيد نشره عام «1959» ومع المقال صورة ل «توفيق الحكيم» في شبابه، وهو ضاحك فيها، حيث إنه عاش بعد مقاله نصف قرن. كان الحكيم آخر عمالقة الأدب منذ بدايات القرن الماضي وهو الجيل الذي أغنى الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية ليس في مصر فحسب بل في العالم العربي والإسلامي، وقد تركوا بصمات واضحة على أجيال متعاقبة وكانوا مدارس فكرية وأدبية متميِّزة مع اختلاف مشاربهم وأفكارهم وتوجهاتهم ومواقف قرائهم منهم. وإذا كان العرب في الماضي يحدِّدون أمات كتب الأدب التي يفترض على طالب الثقافة والأدب الاطلاع عليها وفهمها في كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ و«الكامل في اللغة والأدب» للمبرد و«عيون الأخبار» لابن قتيبية و«الأمالي» لأبي علي الغالي؛ فإن الأجيال المعاصرة كان يطلب منها أن تقرأ مؤلفات «طه حسين» والعقاد «ومصطفى صادق الرافعي» و«المازني» والمنفلوطي «وأحمد أمين» وتوفيق الحكيم» وميخائيل نعيمة «وجبران خليل جبران» وغيرهم.. ولا يعتبر أديبًا ولا مثقفًا من لم يقرأ «يوميات نائب في الأرياف» وأهل الكهف «وحمار الحكيم» «وعودة الروح» وغيرها من مؤلفات الحكيم. يقول الحكيم في مقدمة رسالته إلى الناس بعد موته: إن سؤالاً كان يلح عليه كلما رأى جنازة في الطريق وهو «ماذا يصنع الميت لو سمع ما يقوله الناس خلف نعشه من كلام؟» فالناس خلف النعش مختلفون؛ منهم من يلعنه لضياع وقته معه، ومنهم من يسلي جاره بنوادر وحكايات، ومنهم من يتكلَّم في عمله وتجارته وبيته ولا يخص الميت من حديثهم إلا دقائق معدودات ولحظات خاطفة من الخشوع ثم يعود الجميع إلى لهوهم وأعمالهم يتندرون ويضحكون حتى الأهل الذين ذرفوا بعض الدموع عليه. ماذا يقول الحكيم للناس؟ يقول لهم: سيداتي وسادتي: «أولاً فلتجفف السيدات أعينهن حتى لا يضيع كلامي بين الشهقات، وحتى لا تضيّع الدموع طلاء وجوههن وصبغة شفاههن وهذا هو المهم؛ فإني ما زلت حريصًا على أن تكون المرأة جميلة، فالجمال هو العذر الوحيد الذي به نغتفر للمرأة كل تفاهتها وحماقتها عفوًا لقد نسيت أني ميت وأنه ما كان يليق بي أن أوجه إليكن أيتها السيدات هذه الألفاظ في مثل هذه اللحظة الرهيبة.. أنتن ولاريب تنظرن إلى الساعة والغيظ بادٍ عليكن، ولولا جلال الموت لألقيتن على قبري بأحذيتكن ذات الكعب العالي. إن كل ما ستفعلنه الآن امتهانا لي هو أن تخفين في الحال مناديل العبرات العاطرة وتخرجن أصابع الأحمر الناضرة، وتنظرن في مرآة الحقيبة الصغيرة، وتهززن أكتافكن قائلة إحداكن للأخرى: «والنبي الدموع فيه خسارة» «أما أنتم أيها الرجال والأصدقاء والمعجبون، المرتدون السواد على فقيد الأدب، المحزونون لفداحة المصاب الجلل الباكون لما رزئت به العربية.. والناطقون بالضاد.. إلى آخر هذا الهراء الذي سيملأ به خطباؤكم وشعراؤكم، تلك المراثي البليغة والقصائد العصماء... وإني لألمح الساعة جيوب بعضكم منتفخة بشعر ونثر قد كتب خاصة للتأبين ولعل أكثره قد وضع قبل الاحتضار حتى يكون معدًا للإلقاء في الوقت المناسب ولعل إحدى تلك القصائد قد نشرت اليوم في صحف الصباح بينما نشر إلى جانبها خبر الوفاة، كأنما القصيدة العصماء قد خرجت من صدر صاحبها ساعة خروج روحي». «لمَ كل هذا الإسراع»؟! ألا يتركني الأدب وشأني وقد صرت ترابًا؟ أيظل يلاحقني ويصيح في أثري وأنا أفر منه إلى عالم أرجو ألا أرى وجهه فيه؟ أما يكفيه أنه أضاع علي حياة نابضة؟ أنا الذي صنعه خالقه من لحم ودم ووضعه في دنيا جميلة زاهرة وقال له: «انطلق وعش حياتك في هذه الحياة.. فلم أفعل ذلك ولكني أحلت لحمي ودمي إلى ورق. «آه إنكم لو أنصفتم معشر المشيعيين لوضعتم جثتي مع كتبي وأشعلتم النار في كل هذا». عجبًا إني أبصر أحدكم وهو شاب فيما أرى لا يريد أن يصدق ما أقول وإن فمه ليرتجف كأنما هو يريد أن يصرخ متحمسًا «في ذمة الخلود.. في ذمة الخلود». لا أحب أن استبقيكم وقوفًا أمام قبري أكثر من ذلك فإن من بينكم من ارتبط بمواعيد سابقة وهو يختلس النظر إلى ساعته من آنٍ لآن وليس عندي بعد ما أقول لكم. هذا بعض ما كتب الحكيم.. ترى لو أن مشهورًا ملأ الدنيا ضجيجًا فارغًا وهراء كثيرًا وعداوات مختلفة وضياعًا للعمر في غير طاعة لله أو منفعة لعباده وعاش متمسكًا بالدنيا مؤملاً فيها مجاهدًا في سبيلها ماذا يقول للناس بعد موته وقد شيعه من هو كاره له وناقم عليه وقاصد أن يطمئن إلى أنه مات وقبر حقيقة؟ ستدبج قصائد لا حصر لها ويضاف إلى تاريخه وأمجاده ما لم يفكر فيه في حياته ولو سمع المشهور الشعراء والخطباء والمريدين والمعجبين من كل لون وجماعة لظن أن المتحدِّث عنه ليس هو وأن الناس يخلطون بينه وبين آخر لا يعرفه ولم يسمع به. لو كنت مشهورًا ومرموقًا لطلبت جنازة يسير فيها الأهل وأصحابي في صلاة الصبح ولطلبت حذف صوري من الصحف والمجلات والقنوات الفضائية المحلية والعالمية ولطلبت منع إقامة السرادق للعزاء والخطب والأشعار وحفلات التأبين والصفحات الكبيرة في الصحف من الأحزاب والهيئات والنقابات والاتحادات الطلابية والعالمية وأوصيت الجميع بأن يقولوا فقط: «اللهم اغفر له وارحمه فقد ملأ الدنيا وشغل الناس».