حينما تشهد صرحاً يُشيَّد منذ بداياته حتى يكتمل فإنك تشعر برابط وجداني يربطك بهذا الذي شهدت ميلاده ولحظت نشأته وترعرعه، ناهيك عن أن تكون أنت أحد الذين أسهموا في لبنات هذا البناء.. كان هذا حالي وأنا أشهد هجليج يوم أن دخلتها مشياً على الأقدام في عام «1995م» أحمل سلاحي وعتادي على كتف، وأحمل بعض المؤن على كتفي الأخرى وبرفقتي نفر كريم من المجاهدين مضى جلهم إلى الله شهداء كما نحسبهم وبقي من بقي ينتظر.. كانت هجليج في حينها أرضًا جرداء إلا من شجر الطلح ومباني الحامية العسكرية المبنية من المواد المحلية وبعض المباني الجاهزة التي استجلبتها شركة التنقيب عن البترول لتقيم عليها مكاتبها وسكنات مهندسيها، وكان كل من فيها يتعارفون لقلة عددهم رغم اختلاف مجالات عملهم، لكن ما جعل هذه المعرفة تتميَّز وتتعمق أكثر هو برنامج التواصل الذي تبناه الشهيد أبو القاسم عيدروس والذي كان يرتكز على إقامة جلسات ختم القرآن كل أسبوع في موقع مختلف، فتارة في الحامية العسكرية وأخرى في معسكر شركة البترول وحيناً في معسكر الشرطة وهكذا، حتى دار البرنامج على جميع مواقع ومعسكرات هجليج ودارت معه الأنفس والأرواح وربط التعارف والتآلف بين الوجدان، حتى إن بعض الأجانب في شركة البترول الذين على غير ديننا أصبحوا يأتون ليشهدوا هذه الجلسات.. كنا حينها نتندر باستخراج البترول وما سيجلبه من خير على البلاد والعباد، وكثيراً ما كنت أسمع من بعضهم أن هذا البترول هو فتح من الله على دولتنا وعلى إخوتنا المسلمين، فكنا نحمد الله على هذا الفتح ونسأله أن يحفظ علينا نعمته ويزيدنا من فضله.. كانت تلك هجليج الماضي والتي يسَّر الله لي بعد ذلك أن أشهد نشأتها وعمرانها وتدفق البترول منها، ثم شاءت الأقدار بي أن أكون ضمن متحرك استعادة الحق الذي نازل المعتدين نزالاً عنيفاً واستبسل أبطاله في قتالهم وقدموا الشهيد تلو الشهيد، فكانت المعارك كأشرس ما يكون القتال، ولكن ذلك لم يزد عزيمة الرجال إلا قوة وإصراراً وثباتاً، ولم يزد أرواحهم إلا سمواً وترقباً للسند والمدد من رب السماء، فكان هتافهم (وما النصر إلا من عند الله) وكان يقينهم أن الفتح آت وإن تأخر، فكنت أرى الصبر على الوجوه حين يحمي الوطيس، ويبهرني البشر عليها حين ينجلي الكرب ويلوح النصر.. كان السواد الأعظم من الجنود والقادة يفترشون تراب الخنادق ويلتحفون سماء ربهم، وكثيراً ما كنا في خضم المعارك والقتال الممتد لا نأكل إلا تمرات أو لقيمات نتقوى بها على قتال أعدائنا، ورغم ذلك كنا في سكينة وطمأنينة يحسدنا عليها المترفون، فلا تجد فينا أحداً يلقاك إلا بالبشر والوجه الطلق حتى في أحلك المواقف، فالنفوس لا يشغلها سوى قتال العدو ومنازلته، وإرضاء الرحمن وملاقاته.. ظللنا على تلكم الحال لأيام وأهلنا في أنحاء البلاد يقفون لله ضارعين قانتين، حتى أمدنا الله بإخوتنا في متحرك الكرامة القادم من المجلد ليفتح الله أرض هجليج علينا بالتكبير والتهليل، في يوم الفتح الأكبر الذي فتح الله على نبيه مكة فيه فكانت جمعة الفتح والناس في محاريبهم يدعون الله، والرجال البواسل يبطشون بالمعتدين ويطاردون بقاياهم بعد أن قذف الله الرعب في قلوبهم.. وهكذا ظلت هجليج أرضاً للفتوحات، وعصباً للاقتصاد، ورمزاً لوحدة الصف، ومدرسة تخرج الشهداء والأبطال على مر الأجيال، فبالأمس خرج منها العيدروس، والبادرابي، وهيكل، وميسرة الجابري، وحسين دبشك، ومحمد عطا، ونور الدين المنصوري، ومعاوية آدم، وعبد الرحمن السماني، واليوم خرج منها محمد الحبيب، وعمر كنور، وزكريا، ورتل لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم، وما ضرهم أني لا أذكرهم فهم مذكورون عند رب العرش العظيم..