كان السودان في عام 1963م من أوائل الدول التي اشتركت في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية في العاصمة الإثيوبية. وفي عهد هيلاسلاسي وعهد منقستو هايلي مريام وعهد ملس زناوي، ظلت جل المفاوضات بين الأطراف الشمالية والجنوبية وفي مختلف العهود الحاكمة في السودان تعقد بأديس أبابا التي شهدت المفاوضات والتوقيع على اتفاقية السلام بين حكومة السودان وحركة أنيانيا في مارس عام 1972م، بتأييد من الكنائس وبابا الفاتيكان، وبدعم وسند من الدول الغربية التي قدمت للسودان بعد التوقيع دعماً ضخماً مادياً وعينياً ومعنوياً، عكس ما حدث بعد توقيع اتفاقية نيفاشا، إذ لم يلتزم المانحون في أوسلو بما تعهدوا به وكانت وعودهم سرابية كاذبة. وشهدت أديس أبابا أيضاً المفاوضات التي أفضت لاتفاق إطاري بين الميرغني وقرنق في شهر سبتمبر عام 1988م، وكان أول قرار اتخذ ونفذ هو تجميد إجازة قوانين الشريعة الإسلامية في مرحلة القراءة الثالثة حتى تبدأ المفاوضات وانتظار ما تسفر عنه. وكان دكتور بطرس بطرس غالي وزير الدولة بالخارجية المصرية وقتئذٍ هو أحد مهندسي تلك الاتفاقية الإطارية للعلاقة التي تربط بين الكنيسة القبطية في مصر والكنيسة الإثيوبية. كما أن مبعوث الرئيس الأمريكي القس دانفورث كان يعتمد في طرحه عند بدء المفاوضات في عام 2002م على الدراسة التي أعدها مركز الدراسات الإستراتيجية بواشنطن، والتي كانت ترى ضرورة إقامة نظامين في الدولة الواحدة أحدهما في الشمال والآخر بالجنوب، وعند التوقيع على اتفاقية نيفاشا في عام 2005م نفذ فعلاً هذا الطرح بإقامة نظامين في الدولة الواحدة، ودان حكم الجنوب للحركة الشعبية مع نيلها 28% من قسمة السلطة في الشمال، مع إبداء اعتراضهم على تطبيق الشريعة الإسلامية بالعاصمة القومية!! وفي الوقت الذي حسم فيه الجنوبيون أمرهم وأخذوا يمهدون لقيام دولتهم المنفصلة، كان البعض هنا يتحدثون عن الوحدة الجاذبة وضرورة دعمها خصماً من حقوق ونصيب الشمال في الثروة، ولذلك لم يحسموا أهم القضايا وتركوها عالقة حتى الآن، وكان عليهم في الفترة التي سبقت إجراء الاستفتاء فرض شروطهم ومطالبة القوى الأجنبية الداعمة للانفصال والواقفة خلفه بتحقيق مطالبهم وتنفيذ شروطهم، ولكنهم أضاعوا تلك الفرصة الذهبية «الصيف ضيعت اللبن». وقد اختار الجنوبيون بمحض إرادتهم الانفصال وإقامة دولتهم القائمة بذاتها. وبحكم الجغرافيا فإن الدولتين ستظلان متجاورتين، وهذا يقتضي السعي لإرساء دعائم جوار آمن وسلام عادل، مع اعتراف كل دولة بخصوصية الدولة الأخرى وعدم التدخل في أمورها السيادية وشؤونها الداخلية. ولكن منذ اليوم الأول الذي رفع فيه علم دولة الجنوب، أخرج الفريق سلفا كير ما يعتمل في نفسه من ترسبات ومرارات، وأعلن في محاولة لتصفية الحسابات أنه لن ينسى حلفاءه ومسانديه في الشمال، وقد أوفى بعهده لهم وآوى الحركات الدارفورية المتمردة في الجنوب، لتكون هي وغيرها من حركات التمرد الشمالية شوكة حوت في حلق الشمال «تجمع كاودا الجبهة الثورية»، كما أن العلاقات بين الدولتين منذ قيام الدولة الوليدة ظلت متوترة وفي غاية السوء والرداءة، وظلا في حالة ضرب تحت الحزام وحرب اقتصادية باردة. ورغم أن الجميع كانوا يأملون في أن يفتح الطرفان صفحة جديدة ويتعاونا ويتكاملا اقتصادياً، لكن يبدو أن قوى الخبث الأجنبية هي التي تدير الدولة الوليدة من وراء الستار. كما أن الجنوبيين الذين كانوا أصدقاء حميمين للشمال قد لزموا الصمت بعد الانفصال ولم يسيئوا إليه، ولكنهم انحازوا بالولاء لدولتهم ووطنهم الأم، ولا جناح عليهم ولا أحد يطالبهم بأن يكونوا عملاءً لجمهورية السودان ضد دولة الجنوب، ولكن المؤسف أن قلة من الشماليين المتمردين قد انحازوا بوضوح لدولة الجنوب ضد وطنهم، وأصبح بعضهم يمثل رأس الرمح في إشعال نار الفتن بين الدولتين، وتقتضي الأمانة أن نذكر أن هذا لا ينطبق على كل الذين كانوا منضوين تحت لواء قطاع الشمال أو لغيره، إذ آثر بعضهم الصمت، ومن حق أي أحد أن يعارض النظام ولكن ليس من حقه أن يكون داعماً وعميلاً لدولة أخرى ضد وطنه. وعقدت في أديس أبابا مفاوضات حول القضايا العالقة بين الدولتين مع وجود وسطاء ومراقبين أفارقة وغيرهم، ولكنها وصلت كلها لطريق مسدود، وحاولوا في ثعلبية ومكر أن يهادنوا ويمثلوا ويستدرجوا المشير البشير لجوبا لتوقيفه أو التصرف معه أي تصرف آخر هناك، ولكن إعلان سلفا كير في زهو أنهم احتلوا هجليج قد أبطل مخططهم وجعل كيدهم في نحرهم. وقد بدأت قبل أيام مفاوضات جديدة بين الطرفين في أديس أبابا، وأعلن أن مجلس الأمن قد حدد سقفاً زمنياً لإنهاء المفاوضات والوصول لاتفاقيات في مختلف القضايا العالقة، وإلا فإنه يهددهم بالثبور وعظائم الأمور. وظللنا نتابع عبر الفضائيات الأخبار والتصريحات والتعليقات التي تصدر عن المفاوضات، وكذلك نحرص على قراءة كل حرف يكتب عنها، وكل المؤشرات وقرائن الأحوال تشير إلى أن الطريق مازال وعراً، وأن الشقة مازالت بعيدة بين الطرفين، وربما يفضي هذا للوصول لطريق مسدود. وبالرغم من أن الأحوال المعيشية بلغت أقصى درجات السوء في الجنوب لندرة السلع وارتفاع أسعارها، إلا أن المليارديرات من الممسكين بخيوط السلطة والجاه هناك لا يهمهم هذا كثيراً، وأكثر ما يهمهم وضع شروط تعجيزية تؤدي لعدم الوصول لنتائج طيبة، وتظل الأمور عالقة حتى يحين موعد انتهاء مهلة مجلس الأمن لإنزال العقوبات على السودان. ومن جانب آخر فإنهم يعتقدون أن التحديات الاقتصادية التي تجابه السودان يمكن أن تؤدي بإحكام الخناق عليه لانهيار الاقتصاد ومن ثم انهيار النظام. لقد سحبت الحكومة جيشها من الجنوب فور توقيع اتفاقية نيفاشا، ولكن أكبر خطأ ارتكبته في حق الشعب السوداني هو تهاونها في تصفية الفرقتين التاسعة والعاشرة وتسريحهما بدمجهما في القوات النظامية، أو إيجاد بدائل أخرى لمن لا يتم استيعابه فيها، وظلت هذه الفرق مقيمة بالشمال وحاملة للسلاح ضده وتابعة للجنوب وخاضعة للقيادة العليا للجيش الشعبي في جوبا، ولذلك أخذ قادتهم هنا يتبجحون ب «يا النجمة يا الهجمة» بدعوى أن لهم قوات تحمل السلاح وخلايا نائمة. وقد انطوت مشكلة الجنوب، وأراد أولئك خلق مشكلة جديدة بإعلان ما سموه «الجنوب الجديد» وأخذوا يتحدثون عن الهامش والمهمشين، رغم أن منهم من لم يساهم بوضع «مدماك» واحد في منشأة عامة في أية قرية من قرى الهامش الذي يدعون أنهم أوصياء عليه وعلى ساكنيه. والطريق أمام هؤلاء واضح إذا أرادوا أن يساهموا في العمل السياسي العام بالتبرؤ من التمرد وحمل السلاح، مع الالتزام بالعمل السياسي السلمي، ومن ثم يبدأون في تسجيل حزبهم باتباع كل الخطوات التي تقتضيها عملية التسجيل من وضع لبرنامجهم ورفع قوائم المطالبين بالتأسيس، وإذا تم التصديق لهم يبدأون في الخطوات الأخرى المعروفة من فتح لباب العضوية وعقد مؤتمر عام وانتخاب القيادة.. إلخ. ولكن البعض يريدون أن يقفزوا قفزاً ويصبحوا أوصياءً على الشعب السوداني بلا وجه حق ودون تفويض من أحد. وجاء في الأنباء أن بعضهم يوجد الآن بأديس أبابا وعلى صلة بالوسطاء الأفارقة، وهذا شأن يخصهم، ولكن الذي يدعو للحيرة هو إدعاء بعضهم كذباً أنهم زاهدون في السلطة، ويرددون أن حزب المؤتمر الوطني هو الذي دعاهم ويتهافت عليهم، أي أنه يتساقط تحت أرجلهم ليتفاوض معهم. ومثل هذا التصريح يمثل قمة الملهاة والمأساة وطغيان الهزل على الجد. حيث أن بعض المواقف تصلح فيها الغضبات العمرية البشيرية، لأن الهديل لا يصلح في موضع الزئير.