المشهد الاقتصادي بالبلاد اكتنفه الغموض والحيرة في الآونة الأخيرة أحدثت حالة من الإرباك والتوقُّع لدى المواطن وأضرت بشؤون حياته اليومية ومعاشه حتى قبل أن تقع وتحدث الإصلاحات الاقتصادية التي يتحدث عنها، وما تزال الأنفاس منقبضة تنتظر ما يمكن فعله من جراحة ستطاله لا محالة، وقد كثر الحديث من ثلاثة أسابيع في الأوساط السياسية والصحفية عن إصلاحات اقتصادية ستقدم الدولة على اتخاذها في الأيام القادمة، وذلك من وحي الغلاء الطاحن الذي طال كل شيء وارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة الجنيه السوداني وبالمقابل ارتفاع سعر العملات الأجنبية، وتراجع حركة الاقتصاد الكلي بالبلاد نتيجة عوامل كثيرة داخلية وخارجية في تفاعل مستمر كل يوم، لا أحد ينكر الأزمة المالية العالمية التي امتدت لسنوات وأثّرت على كل اقتصاديات الدول بما فيها الدول الكبرى، وقادت في بعض البلدان إلى الإفلاس واللجوء إلى الاستندانة والسندات الائتمانية كما هو الحال في الكثير من البلدان الأوربية اليونان بلغاريا ورومانيا وإيطاليا، ولكن في حالة السودان فإن الأمر لا شك مختلف بعض الشيء، رغم تأثره بالوضع العالمي من ناحية، ولكن جملة عوامل داخلية تتعلق بالسياسات الاقتصادية والمالية التي اتخذت خلال العامين الأخيرين لم تكن دقيقة، وبصفة خاصة عندما جرى حساب عائدات نقل نفط الجنوب عبر السودان في موازنة العام 2012، والتأخر في البدء في إجراء هذه الإصلاحات منذ وقت مبكر بحجة أن الوقت لم يكن مناسباً في 1994 ثم الدخول في عملية السلام وما تطلبته من إعادة لهيكلة الدولة وزيادة الوظائف الدستورية لمقابلة التزامات السلام قادت جميعها إلى ترهل كبير في جسم الحكومة على المستوى الاتحادي والولائي، وزيادة الانفاق الحكومي على نحو قاد إلى إشكالات بنيوية شوهت تركيبة الدولة وأعاقت تقدم قطاعات أساسية في اقتصادنا، ولاشك أن حادثة احتلال هجليج وما تبعها من تطورات، وما سبقها على مسرح العمليات العسكرية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان صعدت من حالة التراجع الاقتصادي فضلاً عن برامج التنمية والإعمار التي تمضي بالبلاد وما تحتاجه من التزامات مالية في ظل الحالة المفروضة علينا من حصار وعقوبات اقتصادية وتجميد لمبالغ كبيرة طرف الاتحاد الأوربي وتوقف كل أشكال الدعم إلا في قطاعات غير أساسية ولسقوف محدودة، كل هذه الحلقات قادت إلى هذه الحالة التي يعيشها المواطن السوداني، الأمر الذي حمل الدولة للتنبه لذلك والعودة لمؤسسات الحزب لمراجعة الوضع الاقتصادي وما يمكن أن يفعل لكبح جماح هذا التراجع، مما تطلب إعمال سياسة تقشف واسعة وسريعة تلزمها تغيير في بنية الدولة وهياكل الحكومة وضبط الإنفاق الحكومي وترشيده، ومن هنا جاءت اجتماعات مجلس شورى المؤتمر الوطني، والتي سبقها المجلس القيادي ثم تنتقل المداولات وفق ما أقر من سياسات إلى البرلمان لإجازتها ثم تنفيذ ما جرى إقراره. ونحن ننظر في أمر الشورى القائمة والتي خيّم عليها الشأن الاقتصادي ومترتباته، علينا أن نتأمل في ماضي السياسات المالية والاقتصادية والتدابير التي أعملت في الفترة الماضية، والنجاحات التي تحققت في مقابل السياسة المعلنة للتحريرالاقتصادي والفشل الذي لازمها أيضا والتحول إلى التقييد ومضاره المستقبلية، هناك من يقول بفشل القطاع الاقتصادي بالحزب والدولة وعدم عقلانية وواقعية الخيارات التي وضعها لمسارنا الاقتصادي وقدرته على التنبؤ الواقعي وهي التي قادت إلى ما نحن فيه الآن من ضوائق، وآخر يقول بفشله في وضع خيارات بديلة وداعمة للفجوات التي يقدر لها أن تحدث وفق المؤشرات، وقد كان بالإمكان فعل ذلك على عهد تدفقات النقد الأجنبي قبل الانفصال، وكذلك عدم قدرته على مخاطبة جوانب المحاسبة والشفافية والحد من الفساد وقبوله المسايرة بمؤسسات اقتصادية عاطلة بالقطاع العام أو وهمية في معظمها، الأمر الذي نحتاج معه لاستدعاء قرارات رئيس الجمهورية التي قضت بحل بعض المؤسسات ومراجعة الوضع القائم للبقية بصفة أكثر جدية !. وبمثل ما هناك من دعوات للإصلاح الاقتصادي وإجراء جراحة غير رحيمة، يبقى مطلوباً أن ينظر في الأشخاص الذين ينهضون بهذه المسؤولية من مختصين وخبراء وفنيين على كسبهم وعطائهم ومواقفهم، لابد من أن تطولهم يد التغيير في ظل الضوائق المستشرية وعدم نجاعة المعالجات التي تمت، فالتعمق في النظر إلى الحالة الاقتصادية الكلية لا ينفك عن إعمال النظر في من هم داخل هذا الإطار، وأن التغيير لا نقصد به مجرد تغيير في الشخوص بقدر ما هو البحث الجدي عن كفاءات وقدر أكثر مواكبة لأجل تنوع الرؤية وابتكار المعالجات المتعمقة لاقتصاد أزمات وطوارئ تحيط بالبلاد من كل اتجاه، يحمد لقيادة الحزب والدولة أنها سارعت لتدارك ما يمكن تداركه عبر هذا الائتمار الشورى بأبعاده المتعددة في المدى الحالي والمنظور، والقيادة تدرك بوعيها أنه إن كان من سياسات لازمة ستطال المواطن فمن باب أولى أن تطال الدولة أولا على نحو ما أشار إليه النائب الأول في حديثه أن هيكلة للدولة ستتم خلال 72 ساعة ثم يصار إلى رفع الدعم عن المحروقات، وهو أمر إن أبرم سيؤثر على كل السلع والخدمات، ومعلوم أن إجراءً كهذا سيكون عصياً على الدولة اللجوء إليه في هذا الظرف ما لم تكن الحالة بلغت مرحلة لا يمكن معها استخدام تدابير جزئية، لما له من أبعاد سياسية وأمنية مرجوة ربما تستغلها المعارضة في النيل من الحكومة وهي تعمل ليل نهار وتصرح بأنها تعمل لأجل إسقاط النظام ولن تتوانى في الإفادة من هكذا خطوة تلزمها تدابير استثنائية. حسناً إن أقدمت الدولة على مخاطبة هذه المعضلات بنفس جديد ومواجهة التحديات الماثلة، وما تستدعيه من تقليص في هياكل الدولة التشريعية والتنفيذية، فضلاً عن التقشف وخفض الاإفاق وإيجاد البدائل، واستمرار الخفض والتعديل ليشمل كل المؤسسات دون استثناء حتى ما يتعلق بالمرأة والشباب والطلاب.. مبادءة الدولة بنفسها وحزبها بإعمال نسبة أكبر هو المسوق الكبير والمقبول لدى فئات المجتمع عندما تيقن أن القيادة بدأت بما يليها وضربت النموذج والقدوة، عندما يصار إلى قرارات كبيرة بالسرعة المطلوبة وتنزل إلى أرض الواقع سيكون الشعب أكثر تفهماً لتبعاتها، وهو الذي بادر بالأمس ووقف مع الإنقاذ وناصرها وضحى لأجلها بتحمل وصبر كبيرين. عندما يحس الشعب بالتضحيات على صعيد المناصب والمال تقدم من قيادة الحزب والدولة دون غيرهم من الشركاء، سيجد القائد من المواقف ما يعضد وجهته ويجعله أكثر التصاقاً بمواطنيه ويحمل التيارات الأخرى المشاركة في الحكم من تقديم تضحيات مماثلة، أي تعويل على المواطن دون أن تسبقه تنازلات تقدمها قيادة الدولة والوزراء والمستشارون وكل الدستوريين والتشريعيين، ستكون بمثابة القفزة في الظلام لا نريد لها أن تضع مصير البلاد إلى مصير مجهول، هناك من عارض باعتبار أن التوقيت غير مناسب الآن وبحلول سبتمبر القادم ستبدأ الدولة في إعداد موازنة العام 2013 وكان بالإمكان وضع كل هذه التدابير والسياسات الحالية ضمن الموازنة الجديدة، ربما كانت المبررات عندها ستكن أكثر مقبولية، ولكن الإصرار عليها الآن رغم تفهمنا له به من المحاذير والمطبات ما يستوجب التحسب له خاصة وأن ما سيصدر يحتاج إلى موافقة البرلمان حتى نعزز ممارستنا الديمقراطية عبر مواعين شورى الحزب ومؤسسات الدولة. ما يجري له دلالات كبيرة، ولعلنا نقر بخطورة الوضع الماثل وضرورة التعاطي الحصيف مع الحالة بما يتطلبها من حسم وحزم، ويتضح مما رشح من معلومات عن صدقية توجه الدولة إزاء إعمال حزمة التدابير الاقتصادية للانتقال من حافة الهاوية، ولكن هذا الإجراء لوحده دون تتابع لما يلزمه من ضوابط وآليات بالبدء في الهيكلة أفقياً ورأسياً والدفع بكفاءات ودماء جديدة من الخبراء والمختصين والبلاد تكتنز بالكفاءات، ربما فتح شهية المعارضين بالداخل والخارج، واستدعى تكثيف الضغوط وحملات التآمر الخارجي وتوسيع حلقاتها وما أكثرها، وهذا أخطر ما نخشاه في ظل البيئة غير المؤاتية والمشهد السياسي الكلي الذي يريد لمفاوضاتنا مع الجنوب أن يتمخض الجمل ليلد فأرًا هي بعض محطة غادرة تنتظر صافرة مجلس الأمن بحلول الثاني من أغسطس لربيع جديد ينتظرونه!!! اللهم حكمتك ولطفك ببلادنا.