الحكومة لم تكن موفقة في طريقة تطبيقها لحزمة الإجراءات والتدابير الاقتصادية التي أعدتها لمواجهة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد والعجز الحادث في الميزانية، وأهم هذه التدابير رفع الدعم عن المحروقات. فبالرغم من أن معظم هذه التدابير منطقية وحتمية التطبيق ولا يمكن تفاديها في رحلة البحث عن الحلول والمعالجات للحالة المَرَضية التي دخل فيها اقتصاد البلاد ويحتاج علاجها إلى عناية مكثفة. إلا أن الطريقة التي اتبعتها الحكومة في تنزيلها وتطبيقها على أرض الواقع وتقديمها إلى المواطنين كانت تنقصها الكثير من الحكمة والكياسة وصاحبتها ربكة غير مبررة مما كان نتيجته ما حدث يوم الجمعة. أول مظاهر الربكة وعدم الحكمة في تنزيل هذه التدابير كان في تطبيق الجزء الأكثر إثارة للجدل في هذه التدابير وهو رفع الدعم عن المحروقات، فقد تم هذا التطبيق بعيداً عن الهيئة التشريعية ولم تجز من قِبل «نواب الشعب» الذين هم الجهة صاحبة الحق في إجازتها أو ردّها. والتبرير الذي سيق في هذا الشأن كان باهتاً ولا يقوم على أساس منطقي سليم وهو ما قيل إنها معلومات أمنية بشروع بعض التجار في تخزين الوقود للاستفادة من فرق السعر لدى الإعلان عن التعرفة الجديدة. وهذا السلوك من بعض التجار ذوي النفوس الضعيفة والضمائر الميتة والخربة هو أمر متوقع ولا يمثل استثناءاً أو «جديداً» فقد حدثت مثل هذه السلوكيات في الماضي كثيراً وكان على الحكومة أن تتحسب لهذا الأمر لأنه أصبح من المعلوم بأحوال السوق بالضرورة. والسؤال المهم هنا بهذا الشأن هو هل وردت هذه المعلومات في نفس اليوم الذي تم فيه تطبيق الزيادات على أسعار المحروقات وأن التخزين كان سيتم في نفس اليوم؟. ألم يكن من الممكن أن تتم دعوة البرلمان إلى جلسة طارئة في اليوم التالي تخصص لإجازة هذه الزيادات وبذلك يكون الجهاز التنفيذي قد احترم «نواب الشعب» وأعطاهم حقهم الدستوري المنصوص عليه بشكل واضح لا لبس فيه. ولو صحت الرواية التي تقول إن وزير المالية اجتمع برئيس البرلمان في لقاء محدود قام فيه الأخير بالمصادقة على الزيادات حيث ناب رئيس المجلس عن بقية النواب دون وجه حق في الموافقة على تطبيق الزيادات ممارساً بذلك سلطة أبوية و«نيابة من الباطن» وهي سابقة فريدة لا أظنها حدثت من قبل لا في السودان ولا في بلاد الواق واق ويزداد المرء حيرة حينما يقوم بذلك قانوني وبرلماني ضليع في قامة أحمد إبراهيم الطاهر، ولكنها السياسة قاتلها الله. ثاني مظاهر الربكة والاضطراب وعدم الحكمة في تطبيق الزيادات، ذلكم الحديث الغاضب الذي أدلى به النائب الأول لرئيس الجمهورية حيال ردود الأفعال المختلفة حول مخصصات الدستوريين والذي وصفها بأنها فيها ريبة وسوء ظن ومتاجرة مما جعله وهذه سنة حسنة مارسها سلفنا الصالح يكشف عن تفاصيل مخصصاته أمام منضدة البرلمان. ونحن في هذا المقام نذكر النائب الأول بموقف الفاروق عمر الخليفة الثاني الذي كان القرآن يتنزل على لسانه حينما سأله أعرابي من عامة المسلمين وبطريقة «فجة» عن طول جلبابه أمام الملأ وقد كان عمر معتلياً المنبر يخطب في الناس، قال الأعرابي لعمر رضي الله عنه «والله لا نستمع إليك وقد ميزت نفسك علينا يا أمير المؤمنين فأعطيت لكل واحد منا جلباباً واحداً وأخذت لنفسك جلبابين»، فلم يغضب عمر لقول الرجل بل نادى رضي الله عنه وأرضاه على ابنه عبد الله ليقول له «يا عبد الله من صاحب الجلباب الثاني» فيجيب عبد الله «إنه لي يا أمير المؤمنين ولكني تركته لك» فمضى عمر بن الخطاب في توضيحه لموقفه أمام رعيته قائلاً «كما تعلمون أنني رجل طويل القامة وكان الجلباب الأول قصيراً فأعطاني ولدي جلبابه فاطلت جلبابي» فما كان من الأعرابي إلا أن قال «الآن نسمع لك يا أمير المؤمنين ونطيع». ما أعظم أولئك السابقين. هذا الموقف العظيم من سلفنا الصالح ما أحوجنا إلى اتباعه والاقتداء به والاستهداء به في أيامنا هذه حكاماً ومحكومين رغم أننا والله لن نبلغ مهما فعلنا مُد أحدهم ولا نصيفه، ونقول إن كل من ولي من أمر الناس ولاية صغرت أو كبرت فهو في موضع ريبة حتى يثبت العكس، والريبة تتولد ثم تتوالد وتتكاثر وتصبح ظنوناً سيئة حينما لا تكون هناك شفافية وحينما يصبح الإبهام والغموض هو القاعدة، فلو أن الدولة منذ البدء سلكت نهج الشفافية في الكشف عن مخصصات كبار المسؤولين وقامت بنشرها على الملأ فإن ذلك مدعاة إلى القضاء على الريبة وسوء الظن، لأنه في حالة عدم الكشف عن هذه المخصصات للناس فإن ذلك يفتح الباب على مصراعيه للتشكيك والريبة في ذمم المسؤولين في نظر رجل الشارع العادي خاصة وانه يرى في المسؤول وأبنائه سيما الدعة والراحة وإمارات النعمة ورغد العيش فكيف لا يتشكك أو يرتاب. ثالثة الأثافي في مظاهر الربكة الذي صاحبت التطبيقات هي أن حديث بعض قيادات المؤتمر الوطني عن السلوكيات الاستهلاكية للسودانيين والتي وصفوها بالبذخية وغياب الرشد فيها وكيلهم اللوم لهم ومحاولة تحميلهم المسؤولية برمتها، هذا الحديث جاء مناقضاً للواقع الذي تعيشه معظم قطاعات الشعب السوداني بل أظهر هذه القيادات بمظهر المنفصل عن واقع حياة الناس الجاهل بأحوالهم التي هم عليها اللهم إلا إذا كانت هذه القيادات تقصد بحديثها هذا الفئات المقتدرة من أصحاب الدثور، فلا يمكن ان يوصف من يتقاضى أجراً شهرياً قدره ستمائة جنيه أو أدنى من ذلك أو أكثر بقليل مثلاً وهو يعول فقط أسرة من أربعة أفراد أن صرفه فيه تبذير وبذخ في ظل الواقع الاقتصادي الراهن. على الحكومة في هذا الظرف التاريخي الدقيق أن تمد حبال الوصل بينها وبين هذا الشعب الذي رأت منه ما سرّها يوم تحرير هجليج، ولا يمكن لحبال الوصل أن تمتد بين الطرفين ما لم يشعر المواطن أن الحكومة تشعر بما يشعر به من معاناة وما لم تسعَ بالقول وبالفعل إلى التقرب إليه والتخفيف من معاناته وأن تتجنب جرحه بما لا يقبله من القول.