في أوخر الأسبوع الماضي هاج المجلس الوطني وماج لأن الزيادات في أسعار المحروقات قد طُبِّقت قبل أن تُعرض عليه ليجيزها أو يقرر مايراه مناسباً بشأنها واعتبر الأعضاء أن في هذا التجاوز استخفافاً بمجلسهم واعتباره ديكوراً حكومياً ورقماً صفرياً وصبَّ بعضُهم جام غضبهم على وزير المالية وطالبوا بإعفائه من منصبه ولكن السيد رئيس المجلس دافع عنه وأوضح لهم أن الوزير لم يتجاوز المجلس ولم يتصرف بمفرده وأن ماتم قد حدث بعلمه هو ممثلاً للجهاز التشريعي وبموافقة القيادة التنفيذية للدولة وقد فعلوا ذلك لتفويت الفرصة على الجشعين من تجار السوق الأسود وحديثه هذا يعني أن الزيادات أمر مفروغ منه وهم على ثقة تامة أن المجلس سيجيزها ولكن حفاظاً على ماء وجه المجلس طالب البعض بتخفيض جنيه من سعر جالون البنزين وجنيه من سعر الجازولين. وحضر الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية لقاعة المجلس الوطني وألقى خطاباً هاماً في تلك الجلسة. لقد أعلنت الأجهزة السياسية والتنفيذية في الدولة قبل فترة أن الموازنة العامة تشهد عجزاً وأنها تزمع رفع الدعم عن المحروقات ويدرك القاصي والداني وحتى الطفل الغر الصغير أن زيادة أسعار المحروقات تؤدي وعلى جناح السرعة لارتفاع أسعار السلع كافة وهي أصلاً مرتفعة ارتفاعاً بلغ الذروة القصوى وأن أي زيادات أخرى تعني أن الأسواق والأسعار أصبحت ( عايرة وأدوها سوط». وأن الجميع مع رفع المعاناة عن الجماهير وضد زيادة الأعباء عليها لأنها تحملت فوق طاقتها وأكثر من قدرتها وأن الحادبين على سلامة الوطن وأمنه واستقراره ظلوا ينبهون على ضرورة التحوط لئلا يحدث انفجار تلقائي عشوائي وأخذوا يقومون بتهدئة الخواطر والمساهمة في إزالة الاحتقان ومحاولة نزع فتيل الخطر وخلق رأي عام مناوئ لأي انتفاضة عشوائية لأن الضغوط الأجنبية والتحديات الأمنية المحيطة بالوطن مع عوامل أخرى كثيرة تقتضي الوقوف صفاً واحداً ترياقاً مضاداً لأي انتفاضة شعبية فوضوية عشوائية لأنها ستحول السودان لصومال آخر أكثر ضعفاً وتمزقاً. والأمن القومي في هذه المرحلة يعلو ولا يُعلى عليه لئلا تحدث فوضى عارمة تحول السودان لرجل العالم المريض.. وأصبحت المعادلة صعبة بين شعب تحمل أكثر من طاقته وبين وطن مثخن بالجراح ولا يحتمل أي فوضى ومصير مظلم، والحل الناجز يتطلب أولاً الاعتراف بالأخطاء المتمثلة في السياسات الاقتصادية الهوجاء الرعناء التي قادت البلد لهذا المحك والاعتراف بأن الموارد المالية الضخمة في المرحلة السابقة قد ضُيِّع الكثير منها هدراً وسفهاً ولم يتم توجيهها للإنتاج الذي كادت أهم أعمدته المتمثلة في الزراعة تنهار والمهم هو أن الشفافية والمؤسسية ينبغي أن تسود لأن الضبابية والغموض قد أضرت بالوطن كثيراً. وذكر السيد النائب الأول في جلسة البرلمان المشار إليها أن كل ما يثار عن الصرف البذخي وتبديد المال العام هو محض هراء وأصر أن يقرأ على الأعضاء تفاصيل راتبه الشهري بالأرقام وهو بعد الخصومات الأخيرة يزيد قليلاً على العشرة ملايين بالقديم وكان قبلها أكثر قليلاً من الخمسة عشر ألف جنيه بالجديد.. وبالطبع إنه مبلغ قليل لايتناسب مع منصرفات شاغل المنصب الرفيع وما يفرضه عليه من منصرفات والتزامات أسرية وضيافة منزلية وهذا يعني أن الدستوريين الآخرين الأقل منه يتقاضون مستحقات أقل. وأن بعض المسؤولين تحيط بهم حاشية من العاملين في الحراسة وغيرها وأن بعض أقاربهم يحسب أن الواحد من هؤلاء بحكم قربه من المسؤول الرفيع يعتبر ضوءًا للقبيلة وقنديلاً للعشيرة وعلى يديه ينتظر أن تقضى الحاجات ولكن كيف يتسنى له أن يفعل شيئاً في ظل الأرقام الضئيلة آنفة الذكر!! وماذكره السيد النائب الأول يتعلق بالموازنة العامة والفصل الأول المتعلق بالمرتبات ولكن يطل سؤال ملحاح يحتاج لإجابة واضحة لا لبس ولا غبش فيها ... هل البلد يسير بميزانية واحدة هي الميزانية الرسمية المعلنة والمجازة أم أنه يسير بميزانيتين إحداهما هي الموازنة الرسمية المعلنة والخاضعة للمراجعة العامة والأخرى هي ميزانية التمكين وهي خارج إطار أجهزة الدولة ومؤسساتها الرسمية ولا تخضع لأي رقابة أو مراجعة وقوامها «أموال التجنيب وأموال الشركات العامة المعفاة وجزء من أموال الخصخصة وغيرها من الموارد المالية» والدولة بهاتين الميزانيتيين المعلنة والخفية تصبح كالجمل ذي السنامين. وقد تحدث النائب الأول عن الموازنة الرسمية ولنا أن نتساءل عن أموال التجنيب وأموال الشركات الحكومية وغيرها وقد سعى الدكتور عبدالوهاب عثمان وزير المالية والاقتصاد الوطني الأسبق لبسط سيطرة وزارته على المال العام كله وأراد إيجاد معالجات لتلك المعضلات ولكن يده غُلت وكُسر سيفه الفولاذي وحطم ولا ندري كيف تكون المعالجات التي تمليها الضرورة الملحة لتكون وزارة المالية هي القابضة على زمام الأمور مع القضاء نهائياً على ما يعرف بالتجنيب وما إليه. أما بالنسبة لجيوش الدستوريين فإن المتفق عليه شعبياً أن الدولة ليست تكية للإعاشة والترف والوجاهة وليس من شأنها تبديد الموارد في الترضيات والاستقطاب السياسي وخلاصة القول إننا ضد التخريب والفوضى ولكننا مع إصلاح النظام من الداخل وتقويم اعوجاجه.