أخذت الأزمة السورية تتخذ أبعاداً أكبر من أنها أزمة داخلية كتلك التي كانت في دول الربيع العربي، فقد خطت سوريا خطوة حولت بها الأنظار عما يدور بداخلها إلى الفضاء الخارجي، لخلق مواجهة صريحة مع حلف الناتو!! والواضح أن أمريكا لا تريد هذه المواجهة ولن تسمح بها، فكم من الدروس العسكرية والاقتصادية مرت بها الولاياتالمتحدة في تجاربها في أفغانستان والعراق وحتى في ليبيا، الأمر الذي جعل أمريكا تفكر مرتين في مواجهة عسكرية مع أي دولة في العالم مهما صغر شأنها!! لا مجال للمقارنة بين القوة العسكرية التركية والسورية لا من حيث الكم ولا الكيف فالجيش التركي أكبر جيش في أوربا، كما يشكل أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو إذ يبلغ تعداده بين قوات الناتو مليون ونصف مليون جندي.. إن الحروب التي قادتها أمريكا، كانت تعتمد على ضعف القوى الأخرى المناوئة وهذا هو سبب الصلف الأمريكي الذي تصور أنه قوة أحادية القطب بعد زوال الاتحاد السوفيتي، وقد قصف صربيا التي تربطها بروسيا أواصر العرق السلاڤي واللغة التي تتشابه كثيراً في مفرداتها، وحتى الصين نالت نصيبها حيث دمرت سفارتها تماماً في بلغراد، دون أن تقوم برد فعل من أي نوع عدا الاحتجاج والاستنكار. إسقاط الطائرة التركية وهي من طراز الفانتوم، وتركيا عضو ذو وزن ضخم في حلف الناتو، فيه رسالة للحلف لجس نبضه الذي بدا منذ الوهلة الأولى منخفضاً لأقل درجة، ورغم أن النظام السوري يعتبر من الأنظمة الفاسدة والتي بجب أن يجري عليها تغيير جذري إلا أنه.. والحق يقال.. قام بعمل غاية في الذكاء السياسي، الذي تم التعبير عنه عسكرياً، فأمريكا لا تريد تغييراً سياسياً جذرياً في سوريا فهذا خطر يهدد إسرائيل جارة سوريا في المقام الأول، كما أن تركيا المعتدى عليها لا ترغب في مواجهة صريحة مع سوريا الأمر الذي سيؤثر حتماً على نظرة الشعوب العربية تجاهها، سيما أن القوة العسكرية المتمثلة في إيران وحزب الله في لبنان والمساندة الطائفية للعراق تجعل من خسارة تركيا جسيمة وهي تعد نفسها لزعامة المنطقة حيث إن وضعها الاقتصادي والعسكري يؤهلانها لذلك!! كما أن هناك لاعباً أساسياً يبلور دوره في الأزمة وهو روسيا، التي عادت للمسرح السياسي العالمي بقوة، وسياسية روسيا اليوم ضد الأحادية القطبية التي تنتهجها أمريكا، وقوة روسيا تتناسب طردياً مع ضعف أمريكا التي أنهكت اقتصاديًا وعسكريًا!! في داخل سوريا يوجد مائة ألف روسي ما بين خبير عسكري واقتصادي وهم في أغلبهم يمثلون الجانب العسكري، وزيارة الرئيس بوتن للشرق الأوسط والتي بدأت بإسرائيل وانتهت بالأردن تعزز الدور الروسي في المنطقة.. كما أن تصريح وزير الخارجية الروسي بدا واضحاً وجلياً حين قال إن الحالة السورية هي بداية لتشكيل عالم جديد غير ذلك الذي يسود اليوم، وهذا تلميح لما ذكرته كونداليسا رايس عندما نشبت الحرب بين إسرائيل وحزب الله حيث قالت إن شرقاً أوسطياً جديداً قد بدأ يتشكل..!! والواضح في الأزمة أن كلاً من روسيا وتركيا تتعاملان مع الموقف بذكاء في مقابل حيرة من قبل أمريكا وحلف الناتو، تركيا كانت ذكية حين لجأت إلى الناتو بموجب البند الرابع الذي لا ينص على عمل عسكري ولم تستخدم البند الخامس الذي ينص على رد العدوان من جانب الحلف، فتركيا تستطيع أن ترد رداً محدوداً لا يغضب روسيا ويريح حلف الناتو ويزيل حيرته إلى حين!! تركيا تمد سوريا بالكهرباء وتستطيع قطعها عنها وهذا رد أثره أكبر بكثير من الرد العسكري الذي قد يشعل المنطقة ويجنب العالم مغبة حرب عالمية لا ترغب فيها روسيا وآخر ما تتمناه أمريكا المنهكة اقتصادياً وعسكريا!! فالنفسية الروسية ضد الحرب أياً كان حجمها فما من دولة في هذا العالم عانت من ويلات الحرب كروسيا، فأثر الحرب العالمية الثانية مازال حتى اليوم في روسيا وذكرياتها الأليمة مازالت تجتر إلى اليوم رغم مرور أكثر من سبعين عاماً عليها، حيث قدم الاتحاد السوڤيتي وروسيا سبعة وعشرين مليون قتيل من جملة خمسين مليون قدمها كل العالم!! الموقف الروسي تجاه سوريا فرضته المصالح فالوجود الروسي القوي في المنطقة، يخدمها سياسياً و اقتصادياً وعسكرياً، فروسيا تريد تبادل المنافع مع دول المنطقة، وأمريكا تريد ابتزاز المنطقة واستغلال مواردها لمصلحتها لتكون إسرائيل شرطيها في المنطقة، وفي هذا خطر على الأمن القومي الروسي والعالمي، وأكبر مهدد للأمن القومي هو التحكم في الموارد!! النظام السوري استغل الوضع الحالي وحول أزمته من أزمة حكم داخلية إلى أزمة عالمية واستطاع من خلالها تقوية وضعه الداخلي فرغم زيادة عدد القتلى يوميًا إلا أن هذا لم يحرك ساكنًا، فالأزمة تطورت إلى عالمية لم يعد الشأن الداخلي السوري محط اهتمام وقد ساعد على ذلك ضعف المعارضة السورية التي عاشت في منافي الغرب، وأصبحت تدين له بالولاء بأكثر مما تدين لسوريا التي خرجوا من أجلها، كما أن المذابح التي تجري في سوريا اليوم يتشارك فيها القوى المعارضة والنظام سواءً بسواء. وأسوأ ما في أمر سوريا هو ضعف معارضتها وعدم وضوح الرؤية لديها، فلا هي متفقة على هدف، بل تفتقر أصلاً للهدف، الأمر الذي منعهم من الجلوس إلى بعضم البعض فاختلافهم حتى في الثوابت التي لا يختلف عليها!! ذات الحالة يمر بها السودان، والنتيجة المنطقية لوضع كهذا هي الحرب الأهلية والتمزق، فالعالم على استعداد للتضحية بسوريا تفادياً لحرب عالمية، كما أنه مستعد لتمزيق السودان تفادياً لحرب إقليمية قد تتطور إلى عالمية!! فلينظر الحكام أي مصير يقودون بلادهم إليه!!