عندما استقر الرأي على أن يلجأ المتخاصمون في أمر الخلافة إلى التحكيم.. ويضعوا السلاح جانبًا وقع الاختيار على رجلين من خيار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.. اختار معاوية وأهل الشام عمراً بن العاص واختار علي وأهل العراق أبا موسى الأشعري. واجتمع الرجلان في دومة الجندل وتحاورا وتقاولا واختلفا قليلاً واتفقا كثيراً.. وذكرت بعضُ الروايات أن عمراً خدع أبا موسى الأشعري عندما قدَّمه في الحديث بعد التحكيم فخلع أبو موسى عليًا وثبت عمرو معاوية. وفنّد ذلك الإمام أبو بكر ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم لما قال إن ذلك محال لأن العبرة من التحكيم إنما تكون فيما اتفقا عليه لا فيما اختلفا فيه. وكان عمرو بن العاص داهية.. ولم يكن أبو موسى مغفلاً حاشاه ذلك، بل المتأمل إلى موقفه وثباته في المفاوضات يتمنى لو أن وفودنا المفاوضة في أديس وفي الدوحة وفي أبوجا وفي نيفاشا كانت قد استلهمت بعضًا من أسلوبه الممتلئ علماً وفقهاً وأدباً وحكمة. قيل إن عمرو بن العاص عرض عليه الموافقة على خلافة علي واشترط لذلك أن يولّى معاوية الشام ويولّى عمرو بن العاص مصر.. فانظر بم أجاب الصحابي الجليل عبدالله بن قيس المكنّى أبا موسى الأشعري؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. هذا ملخص غير مختل وإن جاء في سطرين لحياة رجلين من أعظم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ممّن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فهما من الصحابة بحسب المصطلح الفقهي الذي تتدين به الأمة خلفًا عن سلف. وكانت العبارة في غاية الإنصاف فقد أقر لهما بالفضل «ففيكما معونة» وذكّرهما بتأخر إسلامهما: أما عمرو فقد أسلم في السنة الثامنة من الهجرة. وأما معاوية فهو من مسلمة الفتح، وقيل أسلم قديمًا وأخفى إسلامه خوفاً من أبيه.. وكان إسلامه كإسلام غيره من مسلمة الفتح مثل أخيه يزيد بن أبي سفيان وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل. ونظرتُ اليوم إلى الإنقاذ فلم أجد إلا عيني أبي موسى الأشعري.. وأنظر اليوم إلى هذه التشكيلة الوزارية فأجد فيها أسماء رجال ظلوا في مراتبهم ومواقعهم كُل أو جُل عُمر الإنقاذ وأنظر إلى ما قدموا في عمرهم الطويل هذا فلا أجد صحائفهم إلا خراباً ويباباً وبلقعاً.. أنظر إلى السودان في الداخل.. فلا أجد إلا ضنكًا في العيش.. وضيقاً فيه وأرانا عدنا من حيث بدأنا واستدار فلك الإنقاذ كهيئته يوم 30/6/89.. وعاد التموين وعادت الصفوف.. وعادت حصص الوقود والسكر وأنظر فلا أجد إلا شتاتاً وفرقة وإضراباً وتمرداً في كل مكان.. وأنظر فلا أجد إلا فساداً واختلاسات وجبايات ومكوساً وتجنيباً. وأنظر فلا أجد إلا تردياً في التعليم وانهياراً في الإعلام. وأبحث عن الشريعة فلا أجد والله إلا كلماتٍ رنّانة أسمعها من المذياع أو من التلفاز تزين بها محافل الزعماء والقادة وتمنَّى بها الحشود والجموع فيرجع الناس جميعاً وهم مطمئنون أن الشريعة حاكمة أو ستحكم غداً أو بعد غدٍ.. ثم ينظرون فإذا هو قبض الريح. ثم أنظر إلى حال السودان في الخارج. فلا أجد إلا قصعة السودان تتداعى عليها أكلة الأمم كما تتداعى الكلاب والذئاب على الجيفة المنتنة ولا أجد في حراستها إلا ابن آوى والضبع والثعلب.. وأبلغ نكاية عدوها فيها صيحة. وأنظر فلا أجد أمامي إلا أبا موسى الأشعري وألتفت فلا أرى إلا أبا موسى الأشعري.. ثم أغمض عيني فلا أجد في حدقاتها إلا أبا موسى الأشعري وإذا صوته يرنُّ في أذني.. ولا يكاد يسكت فأتغافل .. وأتشاغل.. بل وأسد أذني فإذا الصوت أشد رنيناً وصخباً. وإذا به يقول «إن يستعن بكم فما فيكم والله من معونة» ُفأقول له حسبك يا أبا موسى!! رويدك يا أبا موسى تمهل يا أبا موسى!! ترفق يا أبا موسى!! فإذا بالصوت يتمادى.. ويعلو. وإن يستغن عنكم.. فأصيح به: مهْ.. مهْ يا أبا موسى.. الله .. الله يا أبا موسى!! لا تزد حرفًا يا أبا موسى!! فإذا أبو موسى لا يسمعني.. ولا يلتفت إليّ.. وقد اعترتني قشعريرة من الكلام الذي سيقوله أبو موسى والذي كان قد قاله لمعاوية وعمرو فأخرسهما قال لهما: «فطالما استغنى أمر الله عنكما».. وأمر الله يستغني عن الرجال. ومضى أبو موسى الأشعري رحمه الله وغفر له يقول ماضياً فيما يقول.. وأنا أعرف ما سيقول.. فسمعته يقول: «فخير لأمر الله أن يستغني عنكم» ما هذا يا أبا موسى؟ ماذا تقول يا أبا موسى؟ هوِّن عليك وعليّ يا أبا موسى!! إنه السودان!! إنه التلة الأخيرة التي تستكملون بها تلتكم! إنهم رعاة الإبل ومنهم صاحب الخرطوم وناصر المهدي عليه السلام وصاحب ميمنته. وأبو موسى لا يسمع.. ولا يلتفت وينصرف أبو موسى ويبقى صوته في أذني. إن يستعن بكم فلما فيكم والله من معونة.. وإن يستغن عنكم فخير والله لأمر الله أن يستغني عنكم.. غفر الله لك يا أبا موسى فقد مضيتُ وتركتني لا أدري أمن سلاخ عمرو أنا أم من سلاخ أبي موسى ولكنك فيما عدا ذلك فقد أبنتَ ونصحتَ وصدعتَ بالحق.. ولا يلومنَّ بعدك أحدٌ إلا نفسه.