شهد الوطن في الأسابيع القليلة الماضية توتراً وشدَّاً وجذباً وحالة غليان وفوران خمدت بالتدريج ولكن ذيولها ما زالت باقية، ويجب الوقوف عندها طويلاً وقفات جادة لاستخلاص الدروس والعِبَر والسعي لإيجاد المعالجات، وهذا يقتضي الاعتراف بالواقع بكل تضاريسه الوعرة دون دفن للرؤوس في الرمال. لقد حدث عجز في الموازنة العامة للعام المالي الجاري وأصرَّت وأقرَّت كافة أجهزة النظام رفع الدعم عن المحروقات ونُفِّذ هذا القرار السلطاني، وأدى هذا لزيادة أسعار كافة السلع وبلغت الفوضى في الأسواق ذروتها القصوى، إذ لا يوجد حسيب أو رقيب، وكل بائع يفرض السعر الذي يريده دون أن يسأله أحد؛ لأن الدولة رفعت يدها تماماً بدعوى أنها طبَّقت سياسة التحرير والمفترض تبعاً لذلك أن تخضع الأسعار للعرض والطلب، وكلما حدثت الوفرة ينبغي أن تنخفض الأسعار ولكن هذا لم يحدث، وثبت أن ما قيل عن سياسة التحرير هو حديث نظري كذبه التطبيق والواقع الماثل المعيش.. وفي الماضي كان هناك ضبط للأسواق وإلزام للتجار وكافة البائعين بكتابة أسعار السلع وفقاً لما يتم الاتفاق عليه وتقرَّه الجهات الرسمية المختصة وحتى أسواق المواشي في الماضي القريب كانت الأسعار فيها معقولة ويحكمها العرض والطلب رغم وجود السماسرة والوسطاء.. والأدهى والأمرّ أن التحضير للزراعة من حرث وغيره قد ارتفعت أسعار تكلفته ارتفاعاً كبيراً قد يؤثر على الموسم الزراعي في القطاعين المروي والمطري على حد سواء لا سيما بالنسبة للفقراء والمساكين من صغار المنتجين المستضعفين.. وفي ظل الارتفاع الجنوني للأسعار فإن بعض العمال قد لا تزيد رواتبهم الشهرية عن الإيفاء بقيمة المواصلات ووجبة الإفطار في مكان العمل وأشياء أخرى قليلة دعك من مسؤولياتهم الأسرية الأخرى الكثيرة.. وقد بدأ العام الدراسي الجديد ويشكو الآباء وأولياء الأمور من ارتفاع ما يحتاج إليه أبناؤهم وبناتهم من حقائب صغيرة وكراسات وأدوات مدرسية... إلخ مع دفع قيمة المواصلات ووجبة الإفطار لهم، والمؤسف أن الكثيرين وهم في هذه السن الغضة يرجعون لبيوتهم في نهاية اليوم الدراسي وبطونهم خاوية لعدم تناولهم وجبة الإفطار؛ لأن أهلهم «فقراء معدمين».. وأن الحيطان والأسوار تحفظ الأسرار إذ أن أسرًا كثيرة في ظل الظروف الصعبة الراهنة قد لا توقد أحياناً داخلها النار لعدة أيام وعلى أحسن الفروض قد يعتمدون على الخبز والسلطة (إن وجدت) والدكوة وما يماثلها، أي أنها وجبات فقيرة.. وإذا أضفنا لذلك جشع البعض وسعيهم للثراء السريع بأقصر الطرق باستعمال البوتاسيوم في إعداد الخبز واستعمال آخرين للمبيدات المسرطنة لتبدو منتجاتهم الزراعية كبيرة الحجم ومنتفخة أن هذا يؤدي لأمراض سوء التغذية وغيرها من الأمراض التي زادت وانتشرت.. وأن هنالك صفات طيبة كالحياة ومكارم الأخلاق وصون المحارم قد بدأت تهتزّ وسط شريحة من المجتمع السوداني لضعفها البشري وعدم يقينها وصبرها على الابتلاءات وبسبب تردي أوضاعها المعيشية والمادية، فقد تفشت وسطها «أدواء» اجتماعية وبيلة تتمثل في (الهملة والانطلاقة) وتدني القيم والأخلاق وانتهاك العروض، وكثر عدد اللقطاء وحدث تفكُّك وسط بعض الأسر، وكثرت حالات طلب الطلاق للغيبة وعدم الاتفاق وظهرت جرائم غريبة تنشر ويقشعر لها البدن من قتل وذبح للأزواج والزوجات، مع الشكوى المريرة من ظاهرة تفشي المخدرات بين عدد لا يستهان به من العاطلين من الشباب... إلخ وأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لا تنفصل عن الأوضاع السياسية وهي إفراز طبيعي لها ولا بد من استقامة العود ليستقيم الظل.. وأن القواعد العريضة لا تريد سلطة ولا جاهًا وهمها هو العيش الحر الكريم ويكفي الكثيرين عيش العفاف والكفاف وقد أدركوا بحسهم الوطني وحدسهم الصادق أن التحرشات الأجنبية والتحدّيات الداخلية لا سيما الأمنية تقتضي أن يتسامى الجميع على مراراتهم واحتقاناتهم ويتحملوا ويصبروا ويصابروا ويبطلوا محاولات بعض المترفين من ذوي الأجندة الخاصة لإحداث اضطرابات؛ لأن الاستقرار والحفاظ على الأمن القومي في هذه المرحلة واجب وطني لئلا يتحول الوطن لصومال آخر أكثر تفكُّكاً وضعفاً. وإن ما حدث في الأيام الفائتة ينبغي أن يوقظ الواهمين الحالمين وينبه الغافلين؛ لأن المسيرة تحتاج لإصلاح حقيقي يتم في وضح النهار؛ لأن للجميع حقًا أصيلاً في هذا الوطن ويخشى البعض أن تكون بعض مراكز القوى كالصخرة الصلدة التي تتكسر عندها كل محاولات الإصلاح وبسط العدالة وسيادة القانون وإنفاذه على الجميع بلا استثناء ولنا أن نسأل الحاكمين والقابضين على المفاصل ثم ماذا بعد؟!.