عندما كنا تلاميذ في المدارس الابتدائية في منتصف الخمسينيات كنا أشقياء جداً.. وكانت المدارس مؤهلة بما فيه الكفاية من الكتب والأدوات المدرسية والرياضية، وكنا لا ندفع ولا مليم واحد.. ولهذا فقد كان لدينا فائض من الزمن للشقاوة والمعاكسة. ومن أمثلة هذه الشقاوة أننا نشارك في «المعارك» اليومية وعلى رأس الساعة التي تدور بين التلاميذ.. وكان هناك ثلاثة احتمالات إما أن تكون طرفاً معتدياً أو طرفاً معتدى عليه أو تكون «بتاع المديدة حرقتني»، ولم تكن هناك أية فرصة لعمل آخر.. والمديدة حرقتني لعبة تقوم بها عندما يتشاجر طرفان ولدان مجموعتان أولاد حلة فوق مع أولاد حلة تحت.. أولاد حلة قدام مع أولاد حلة وراء.. وتنحصر مهمتنا في أننا نملأ أيدينا بالتراب ونقف أمام المتقاتلين أو أمام الذين نريد أن نحمسهم على المقاتلة ونصبح فيهم بالصوت العالي ونحن نحرك أيدينا ونمدها نحوهم قائلين «المديدة حرقتني المديدة حرقتني»، وننتظر أن يقوم أحد الطرفين بكشح التراب الذي في أيدينا نحن على الطرف الآخر.. وعندها تندلع الحرب ونظل نتفرج عليهم ونشجعهم على الاستمرار.. وفي الحالات التي يحجم فيها أحد الطرفين عن كشح التراب الذي في أيدينا كنا نقوم في ذاتنا بكشحه على أحد الطرفين فيبدآن الضرب العنيف ونحن نسعد بذلك.. ثم إن الأمر قد ينقلب علينا في بعض الأحيان عندما نكون في وضع المعتدي أو المعتدى عليه، ويقوم آخرون بلعب دور المديدة حرقتني. ويبدو أن قناة «الجزيرة» الفضائية وهي «بتاعة منو ما عارف» و «وراها منو ما عارف» و«عايزة شنو ما عارف».. تقوم بهذا الدور الطفولي في العالم العربي وتحمل في أيديها التراب والغبار والحصى، وربما تحمل مواد كيميائية وهي تصرخ بلسان بعضه عربي ونصفه أجنبي قائلة: «المديدة حرقتني» وتنتظر من الأطراف أن تتعارك وتتماوت ويسفك بعضها دماء بعض.. ولاتتوقف قناة «الجزيرة» إلا بعد أن يلفظ الطرفان أنفاسهما الأخيرة لتبحث عن آخرين في عوالم العرب والمسلمين. والطبع تخصصت قناة «الجزيرة» في كل الدول العربية «فيما عدا تلك التي ترى منها العين الحمراء».. وعندما جاءت إلى السودان وجدت الأمر يختلف تماماً.. فعلى قدر ما قامت تنصيب آلاتها وانتظرت الموت والخراب والدمار والجنائز كان أمل قناة «الجزيرة» يخيب تماماً.. وفعلت ذلك أيام ما قبل استفتاء الجنوب، و «كوركت» «المديدة حرقتني» في أيام الانتخابات وانتظرت لتقول إن «الهوتو والتوتسي» جاءتكم في الخرطوم. ثم فعلت ذلك أيام احتفال الجنوبيين بالانفصال.. ولم تتوقف قناة «الجزيرة» حتى الآن عن محاولاتها المستمية لأبراز أحداث «محدودة وكأنها يوم القيامة».. وأقرب مثال لذلك يوم الجمعة الماضية، حيث قامت مجموعة «جامع المظاهرات» بأم درمان بخروج كان متوقعاً في داخل منطقة الجامع، لأن السلطات الأمنية منعتهم من الخروج أكثر من ذلك.. ولكن قناة «الجزيرة» ومراسلها قالوا للعالم إن القيامة قامت في «جامع المظاهرات» وإن الحكومة «أطلقت الغاز المسيل للدموع» وإن الناس هتفت بسقوط الحكومة، وإن «الكنداكة» هي ملكة من ملكات الفراعنة، وإن ناس الأبيض وأم روابة خلاص على وشك إسقاط النظام. وقناة «الجزيرة» تنسى وهي في قمة أداء دورها المرسوم «من منو ما عارف» أنه في الوقت الذي كانت تقول فيه «المديدة حرقتها» في الجامع.. كانت القنوات الأخرى تنقل زيارة النائب الأول لافتتاح أكبر وأعظم جامع في كادقلي.. والقنوات تنقل أحداث افتتاح رئيس الجمهورية لأكبر مصنع لإنتاج السكر في العالم.. نعم في العالم.. صدق أو لا تصدق. وكنت أستغرب من أن قناة «الجزيرة» تحاول أن تعمل من «الفسيح شربات» وماذا تستفيد من إبراز حدث صغير بحجم كبير متوهم مشحون بعبارات «المديدة حرقتني»؟ وعلى كل حال نعتقد أنه تسهيلاً لمهمة قناة «الجزيرة» يمكنها أن «تركب» كاميرات دائمة في هذا الجامع الذي لا بد أن تخرج منه المظاهرات بحكم أنه بتاع حزب الأمة، والذي نعلم أن ابن زعيمه يعمل مساعداً لرئيس الجمهورية، وهو ما نسيت أن تقوله قناة «الجزيرة»، وركزت فقط على حكاية «المديدة حرقتني»، وتسهيلاً أيضاً على قناة «الجزيرة» الآن نحن نقول «الشعب يريد إسقاط النظام» حتى تقوم قناة «الجزيرة» بنقل الخبر مفخماً نقلاً عن صحيفة «الإنتباهة»، ويمكنها أن تقول إن كل الصحف قالت «الشعب يريد إسقاط النظام».. والآن فقط استطعت أن أفهم.. إن ما فعلته وتفعله قناة «الجزيرة» «وأختها الأخرى» يذكرني دائماً الهتافات التي يصيح بها شباب الشعوب العربية عندما يهتفون ضد هذه القناة بصيغة حصرية قائلين «يا جزيرة يا حقيرة». { كسرة: ماذا تم في موضوع ترحيل الجنوبيين الذين مازالوا «بي جاي» بعد مرور عامين على طلبهم الانفصال؟! علماً بأن أربعة ملايين جنوبي يكلفون الدولة مليوني سرير بمعدل اثنين في كل «عنقريب» يومياً وأربعة ملايين وجبة فطور وأربعة ملايين غداء وأربعة ملايين عشاء يومياً، وثلاثين مليون رغيفة، ومليون رطل زيت شراب ومسوح يومياً ومليون رطل سكر يومياً.