إن العلاقات السودانية المصرية ضاربة في أعماق التاريخ بحكم الجوار التاريخي والمشتركات العديدة المتمثلة في الدين الإسلامي الحنيف والعروبة مع تقدير حقوق إثنيات ومعتقدات الأقليات الأخرى. ونهر النيل هو الشريان الذي يربط بين البلدين والأهرامات والآثار تؤكد عراقة العلاقات بين البلدين الجارين الشقيقين اللذين ظل التبادل السلعي والتجاري بينهما قائماً منذ القدم وطريق الأربعين من الشواهد على ذلك. وفي عهد التركية السابقة لم تكن تبعية الحكمدار للباب العالي في الإستانة مباشرة ولكن كانت تبعيته المباشرة لمن عينه وهو الخديوي في مصر. وكان السودانيون مرتبطين بالأزهر الشريف منذ عهد السلطنة الزرقاء وعهد مملكة الفور وكان لهم هناك الرواق السناري والرواق الدارفوري. وإبان عهد الحكم الثنائي ذهب عدد كبير من الطلبة السودانيين ونالوا دراستهم الثانوية وما بعدها بمصر ونال بعضهم منحًا دراسية من مصر أكملوا بموجبها تعليمهم العالي في السوربون وبعض الجامعات الفرنسية الأخرى والشواهد على ذلك عديدة. وأسست بعثة تعليمية مصرية في السودان كان لها عدد من المدارس المصرية وتوج ذلك بإقامة جامعة القاهرة فرع الخرطوم في عام 1955م. وإن بين البلدين رباطًا اجتماعيًا واختلاطًا في الدماء ومصاهرات وزيجات كثيرة بين البلدين ورباطًا ثقافيًا وثيقًا إذ كانت الصحف والمجلات المصرية والكتب الصادرة من هناك ترسل تباعاً وبكميات كبيرة لتباع هنا وينتظرها القراء بصبر نافد مع الاستماع لإذاعة القاهرة وإذاعة صوت العرب وإذاعة ركن السودان قبل ظهور الفضائيات. ومما يدل على عمق العلاقات أن الأستاذ العقاد وهو قامة فكرية سامقة أقام فترة بالسودان في أوائل الأربعينيات إبان الحرب العالمية الثانية وقد التف حوله المثقفون والأدباء هنا وفي احتفال أقيم على شرفه ألقى الأستاذ محمود الفضلي قصيدة العقاد أبعداً نرجى أم نرجى تلاقيا كلا البعد والقرب قد هيجا ما بيا فبكى الأستاذ تأثراً وأثناء وجوده في السودان كان يعد في كتابه «عبقرية عمر» ووجد كثيراً من المراجع التي احتاج إليها بمكتبات بعض الأدباء الخاصة فأمدوه بها.. وزار الأستاذ علي الجارم السودان عندما كان مفتشاً للغة العربية بوزارة المعارف المصرية وأثنى على معلمي اللغة العربية هنا بعد الوقوف على مستوياتهم وطريقة أدائهم وعند الاحتفاء به ألقى قصيدة دالية شهيرة وقد جاراه الشاعر أحمد محمد صالح بدالية أخرى شهيرة وقام عددٌ كبير من الأدباء والمبدعين بزيارات للسودان ومنهم على سبيل المثال الدكتور محمد حسين هيكل باشا الذي زار السودان في الربع الأول من القرن العشرين ونشر بعد عودته لمصر كتاباً بعنوان عشرة أيام في السودان. وفي السبعينيات زارت الدكتورة الشيخة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ السودان وكذلك زارته الفنانة أم كلثوم في عام 1968م وأحيت فيه حفلها الشهير وزارت السودان الدكتورة سهير القلماوي وقد كرمها مواطنو قرية فداسي الحليماب في مهرجان حاشد. وعمل في السودان عدد من الأساتذة المصريين في الجامعات السودانية وأثروا الساحة الثقافية بمساهماتهم القلمية ومشاركاتهم في الندوات العامة ومنهم على سبيل المثال الدكتور محمد النويهي والدكتور عبد المجيد عابدين والدكتور عز الدين إسماعيل والدكتور محمد مصطفى هدارة وغيرهم. وقد وجد عدد من الشعراء والمبدعين السودانيين تقدير الأوساط الأدبية والفكرية في مصر وعلى سبيل المثال فقد كان الأديب معاوية محمد نور محل تقدير وإعجاب العقاد وكان من المقربين إليه وكذلك أبدى الدكتور طه حسين إعجابه بالدكتور عبد الله الطيب وكتب مقدمة كتابه الضخم المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها أما الروائي الطيب صالح فقد كان الناقد رجاء النقاش هو أول من لفت النظر لروايتيه موسم الهجرة للشمال وعرس الزين وقد احتفت بها الأوساط الأدبية هناك ثم ذاع صيتها في السودان وفي أرجاء العالم الأخرى. وإن السودانيين كانوا يلمون بمعلوماتهم عن مصر عن طريق الوسائط الإعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية المتمثلة في السينما والأفلام المصرية قبل ظهور الفضائيات ولكن المصريين لم يكونوا يعرفون شيئاً يذكر عن السودان بل إن الكاتب أحمد حمروش كتب مرة انهم في صغرهم كان لهم جار سوداني يعمل بواباً كان على خديه ثلاثة شلوخ أفقية وكانوا يطلقون عليه فيما بينهم ساخرين لقب مية وحداشر وتبعاً لذلك أخذوا يلقبون كل سوداني يلتقون به «مية وحداشر!!». وقبل أربعة عقود فقط من الزمان كان من يزور مصر من السودانيين يأتي ويصف مشاهداته هناك ويشد أسماع الحاضرين ومن دلائل ذلك أن الرحالة الراحل محمد عبد السلام زار مصر في منتصف الخمسينيات وعلى مدى حوالى خمسة عشر عاماً ظل يجوب المدن والقرى بأنحاء القطر المختلفة ويلقي في محاضرة واحدة في المدارس والأندية عن تلك الرحلة بذات الكلمات والجمل وقد استمعنا إليه ونحن في الصف الأول بالمرحلة الوسطى واستمعنا لذات المحاضرة بذات تفاصيلها وعباراتها ونحن في نهاية المرحلة الثانوية ولكن منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وبتشجيع من النظامين الحاكمين في السودان ومصر أضحت الإجراءات سهلة وانكسر الحاجز وأصبح السودانيون يزورون مصر بأعداد كبيرة لقضاء الإجازات أو للعلاج أو بغرض تجارة الشنطة وغيرها أو للعبور عبرها لدول أخرى وأصبحت محاضرة محمد عبد السلام وغيرها من حكايات الزائرين لمصر في الماضي من صفحات الماضي المطوية... ونواصل